لقاء مع الموت في سامراء

> بغداد «الأيام» من لوك بيكر :

>
سائق باص يتحدث مع جندي أميركي يراقب احدى نقاط التفتيش في بغداد أمس
سائق باص يتحدث مع جندي أميركي يراقب احدى نقاط التفتيش في بغداد أمس
في العراق .. يزحف اليك الموت اينما ذهبت. وكلما طال بقاؤك وسط أحداث العنف في هذا البلد أصبح الأمر أكثر الحاحا وأكثر ترويعا,ومع مرور الوقت يموت كثيرون ممن تعرفهم أو تشوه أجسادهم أو تكون لهم مع الموت حكايات تزرع في النفوس الخوف والفزع.

لن تسمع هناك سوى قصص عن .. الذين قتلوا بفعل القصف الجوي والأطفال الذي نسفتهم القنابل الانتحارية والأسر التي حوصرت في مرمى اطلاق النار وأخبار الذبح على أيدي المسلحين أو القتل على أيدي المجرمين.

وفي مارس من العام الماضي كنت أقف في شارع بمدينة كربلاء عندما قام انتحاريون بتفجير انفسهم بين حشد من الشيعة ليقتلوا أكثر من مئة شخص من بينهم عشرات كانوا يقفون حولي أنا .. أحد الغرباء الذين أصبحوا ضحايا جددا للصراع في العراق.

ولكن في الأشهر القليلة الماضية اكتسبت روايات القتلى طابعا شخصيا أكثر .. إذ لم يعد هؤلاء القتلى مجرد أناس قتلوا بشكل عشوائي بل أناس قابلتهم والتقيت معهم وبعضهم تعرفه جيدا أو زملاء يعملون معك يوميا أو حتى أصدقاء.

وكل اسبوع تقريبا يكون لدى أحد العاملين في فريق رويترز وهي واحدة من بين نحو 12 وكالة اخبارية مازالت تعمل في العراق قصة جديدة يرويها عن قريب سواء أكان أخا شقيقا أو أما أو ابن عم أو ابنا قتل في ملابسات مأساوية مروعة.

الشهر الماضي قال احد أعضاء الفريق من السائقين ويدعى ياسين انه في حاجة الى عطلة من العمل كي يبحث عن أخيه الحداد الذي غاب عن عمله لمدة خمسة أيام.

وبحث أقارب ياسين عن الأخ المفقود دون جدوى وبعد أن تملكهم اليأس قرروا البحث في مشرحة بغداد ذلك المبنى الواقع على ضفاف نهر دجلة والذي يكتظ بالجثث بكل معنى الكلمة.. وبعد المرور بين غرف التشريح وسحب المحفات الباردة المخصصة لحفظ الجثث عثر ياسين أخيرا على أخيه. لقد تعرف عليه من ملابسه التي كان يرتديها قبل اختفائه ومن وشم على ذراعه.لم يستطع ياسين التعرف على وجه شقيقه لأن جثته تركت بعد مقتله ملقاة تحت وهج شمس الصيف الحارقة مما تسبب في احتراق جلده بشكل حال دون التعرف عليه.. وقبل يومين عرف سائق آخر يدعى سعيد مازال يرتدي ملابس الحداد التي ارتداها اثر مقتل شقيقه في حادث سيارة بمقتل ابن عمه.

وكان الشيعي الذي عاش كل حياته في منطقة يغلب على سكانها السنة قد قتل لانتمائه الى الطائفة الدينية الخطأ.

وتنشط الآن "فرق الموت" التي تنتمي للفريقين. وتجوب الضواحي السنية والشيعية.. وفي الأشهر القليلة الماضية تواصلت روايات القتل .. فقد قتل شقيق الرجل الذي يشتري الطعام للمكتب في انفجار قنبلة زرعت على جانب طريق وقتل ابن عم مراسلنا في الخدمة العربية بعد تعذيبه على أيدي الشرطة وقتلت القوات الأمريكية بالرصاص والد زوجة أحد مترجمينا وقطعت ساقه كما قتل شقيق مراسلنا في الفلوجة على أيدي القوات العراقية.

والشهر الماضي قتل سياسي من السنة أصبح مصدرا منتظما للأخبار بالرصاص في بغداد لأنه كان يشارك في كتابة الدستور الجديد. ومازال اسمه ورقم هاتفه ضمن قائمة مصادرنا. ولا نستطيع شطب اسمه.. نفسيا.

هذا ما يتعلق بمكتب واحد. ولدى المكاتب الأخرى قصص مشابهة تستحق أن تروى. والغالبية العظمى ممن قتلوا بالعراق هم عراقيون وعدد كبير منهم كانوا مدنيين أبرياء. وليس هناك أرقام محددة ولكن جماعة تطلق على نفسها اسم هيئة الاحصاء بالعراق وهي جماعة أمريكية بريطانية لا تسعى للربح قالت ان نحو 25 الف مدني قتلوا في العامين الأولين بعد بدء الحرب.. وتجمع هذه الهيئة أرقامها من تقارير وسائل اعلام وتقول ان اجمالي الضحايا من المدنيين قد يكون أكبر ناهيك عن أن تكون وسائل الاعلام قد رصدت كل عملية قتل.. وفي الفترة نفسها لقي أكثر من 1850 جنديا أمريكيا حتفهم أيضا بينهم 1400 في أعمال قتالية وأصيب أكثر من 13 الفا كانت إصابات كثيرين منهم مروعة مثل فقدان الأطراف أو فقد البصر. ولم يفلت الصحفيون أيضا من الموت. وقتل أكثر من 50 صحفيا وزملاؤهم في العراق منذ مارس 2003 مما يجعل العراق أخطر بلد في العالم على عمل اجهزة الاعلام.

وفقدت رويترز مصورين اثنين قتلا بنيران دبابة أمريكية أو برصاص مدفع رشاش. وقتل مصور آخر يعمل لحساب رويترز لبعض الوقت في نوفمبر الماضي أثناء هجوم لمشاة البحرية الأمريكية في الرمادي. وتعرض عدد آخر من مصوري رويترز لاطلاق النار وأفلتوا من الموت بأعجوبة.

وقتلت مارلا رزيقة وهي امرأة أمريكية شابة تدير مؤسسة مساعدات تعمل من أجل الحصول على تعويضات لضحايا الحرب من المدنيين الأبرياء والتي كان لها وجود دائم بين الصحفيين في بغداد في انفجار قنبلة على الطريق المؤدي الى المطار في بغداد.. وأحيانا ما تظهر قصص الرعب من حيث لا تدري. لقد التقيت بمسؤول بشركة الخطوط الجوية العراقية بشمال العراق منذ اسبوعين وتجاذبنا أطراف الحديث لبعض الوقت عن حياته واسرته. الأسبوع الماضي اتصلت بها هاتفيا لأعرف أخباره وأخبار عمله فوجدته وقد انهار باكيا على الطرف الآخر.

قال المسؤول "الأمر مروع للغاية ... عدت الى منزلي من العمل قبل ثلاثة ايام وما كاد ابني يسرع نحوي مرحبا حتى سقط على الأرض. أسرعت نحوه فوجدته مضرجا في دمائه". لقد أصيب ابنه محمد (عشر سنوات) برصاصة طائشة. اخترقت الرصاصة رقبته وحطمت فقرة في عنقه لتصيبه بشلل نصفي.. ويعتقد الدكتور حارث حسن أحد أشهر الأطباء النفسيين في العراق ان هذا البلد قد يكون أكثر البلدان التي تعرضت لأضرار نفسية في العالم بفضل 25 عاما من حكم صدام حسين الدموي وأعمال العنف المستمرة خلال العامين ونصف العام الماضيين.. قال لي الدكتور حسن هذا الشهر وهو يشير الى أن أكثر من 70 في المئة من المرضى الذين يعرضون عليه يعانون من اضطرابات ما بعد أعمال العنف ان الآثار على المدى البعيد خطيرة. وأضاف ان ما يجري هو كارثة من الناحية النفسية والاجتماعية.. وقد لا يكون عبثا أن تروج واحدة من الأساطير عن ملك الموت «عزرائيل» في العراق. وطبقا للأسطورة شاهد أحد الخدم الموت في سوق ببغداد. وخوفا من أن يكون أجله قد حان عاد مسرعا الى سيده وتوسل اليه ليعطيه جوادا يطير به الى سامراء.

وبعد أن هرب الخادم ذهب السيد كي يرى الموت في السوق وسأله قائلا "لماذا أخفت خادمي.."رد الموت قائلا "لم أكن أحاول اخافته. لقد فوجئت فقط لرؤيته لأن موعدي معه هذا المساء في سامراء."

وفي العراق هذه الأيام يمكن أن تتبدى اسطورة سامراء في كل مكان. رويترز

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى