بعض تجليات الحيز في رواية (دملان)

> «الأيام» عبدالرحمن عبدالخالق:

> في المصطلح:الحيز مصطلح أطلقه الدكتور عبدالملك مرتاض، مقابلاً للمصطلحين الفرنسي والإنجليزي: Espase Spase) )، أي «الفضاء»، مبرراً إيثاره لمصطلح «الحيز» من كون «الفضاء» مصطلحا قاصرا بالقياس إلى «الحيز» لأن «الفضاء» من الضرورة أن يكون معناه جارياً في الخواء والفراغ بينما «الحيز» لديه ينصرف استعماله إلى النتوء، والوزن، والثقل، والحجم، والشكل.

والحيز بهذا المعنى يتمظهر على شكلين : شكل مباشر «الجغرافيا» أو بالتحديد مظهر من مظاهرها، وغير مباشر، هو «المظهر الخلفي» أو «الحيز الإيحائي»، أي التعبير عن المكان أو الجغرافيا تعبيراً غير مباشر كالقول سافر، خرج، دخل، أبحر، ركب الطائرة، سمع المؤذن، مر بحقل(1).

وتبقى المصطلحات في هذا الشأن مثار إشكالية قائمة (المكان، الزمن، الفضاء، الحيز) بتداخلاتها وروابطها.

وكل رواية بهذا المعنى - لا تخلو من حيز، كما لا يمكن أن تتحرك شخصوها إلا في إطار حيز معين، كما هو حال البنى السردية الأخرى، الزمن ، الوصف، الأحداث .. الخ.

وأجدني - في هذه الحالة - أمام محاولة جد عسيرة (لعل وصف تناولتي بالمحاولة تشفع لي عن أي قصور).. وصعوبة الأمر يأتي من زاويتين.. الأولى تتصل بتداخل المفاهيم، والفواصل الضيقة بينها (حيز، مكان، فضاء) أما الثانية فهي: سعة وتشعب الحيز بتجلياته المختلفة، في عمل روائي يأخذ امتدادات مكانية شاسعة، بل يكاد الحيز يسكن شخوصه (إن علاقة الكائن الإنساني بالمكان شبيهة بتلك الصناديق المتداخلة أو «البصلة») على حد تعبير أمول، وأمير : (فالفرد يحتل قلب البصلة ، وتمثل الأماكن المحيطة به طبقات البصلة، وتتسع هذه الطبقات كلما اتسعت مجالات أفعاله ونشاطه)(2)، ويضاعف من صعوبة الأمر.. كون المحاولة تناولة سريعة، وفي «حيز» قرطاسي محدود.

الحيز في رواية (دملان):
أود الإشارة أولاً إلى عدم إمكانية الإحاطة بالحيز في مجمل رواية (دملان) وهو في الأصل غير مطلوب منهجياً، لذا سأتعامل مع بعض النماذج، مع ارتباطاتها الدلالية، فالحيز - هنا - يكاد يتماهى مع مجمل أحداث الرواية وشخوصها.

من الصفحة الأولى في الرواية ، نجد الحيز أمامنا، من خلال عبارة إخبارية، مبتداها اسم علم، هو الأستاذ (ع.ش.ب)، أو الأستاذ نجيب (الذي يسكن أمام شقة الحاج الرديني تماماًً، في تلك العمارة الصغيرة التي تقع في ركن شارعنا بين «صيدلية سقراط» و«مكتبة المُعري»)(3)، فتزاحم الأمكنة وبناؤها بناء هرمياً تبدأ بشقة الأستاذ نجيب المقابلة لشقة الحاج الرديني، في عمارة صغيرة تقع بين «صيدلية سقراط» و«مكتبة المُعري»، ضمن شارع يقطنه الراوي (وجدان)، ضمن حيز أكبر مدرك من سياق الرواية، تحمل مدلولات اجتماعية/عاطفية، تربطه بمحيطه، ولا يمكن أن يفسر ذكر اسم الصيدلية والمكتبة، إلا بهذا المعنى.

إن الحيز الذي يتحرك في وسطه وجدان والاستاذ نجيب الذي يرتبط مع وجدان بعلاقة حميمة، يكسوه جو اكتئابي يعيشه وجدان (الرواي)، ويعيده إلى الزمن الجديد وهو هنا زمن السرد - الزمن الذي عبر عنه وجدان بأنه زمن ازدهرت فيه صناعة الهموم، وطفح المنكر والفساد، وغابت البركة إلا عن سياسات التجويع والقهر واللامساواة. ويواصل الكاتب حشد مفردات تنتسب بنسب ما للحيز بشكليه المباشر (السرير، علبة الساردين، المنزل)، وغير المباشر بدلالاته السلبية (بلطحة، هامد، خامد، محشور، صردنة بصيغة الفعل «تصردنت»)، ليصعد من تصوير الجو الاكتئابي الذي يعيشه (وجدان) معبراً عنه بالقول: (طوفان من الغيبوبة يجتاحني منذ 8 سنين. فجوة مدلهمة داكنة، يكرر كل يوم فيها الآخر بتطابق شديد. اكتئاب عات تزداد وطأته كل يوم، أظل خلاله «مبطوحاً» هامداً خامداً فوق السرير، ليل نهار، كما لو كنت محشوراً في علبة صاردين. لم أغادر أثناءه المنزل قط. «تصردنت» تماماً. انقطعت عن الاتصال بالكل منذ أول أيامه. بادرت بقطع التلفون أيضاًَ لئلا يتحدث معي أحد) (4).

وننتقل مع الرواية في جزئها الأول «شارع دغبوس» حيث ولد وتربى (وجدان / الراوي) إلى حيز آخر أكثر اتساعاً، الرحلة/الحلم، بما عكسته من تضاد بين عالمين، يمكن التعبير عنهما بالعالم والعالم الآخر، عالمنا وعالمهم، والحيز لعب دوراً مهماً في إبراز هذه المفارقة فالرواية تبدأ بالحلم لتنتهي به، ويمكن أن يكون لهذا الشكل دلالة ما، كدلالة عن انغلاق دائرة التغيير وإن على المدى المنظور.

تبدأ الرحلة بفعل المغادرة (غادر - نا)، الذي يمثل حيزاً إيحابياً، أو غير مباشر، ومطار عدن ، الحيز المباشر والرحلة مع ما تحتشد فيها من حيزات (إن جاز القول) أو الأمكنة (مطارات ، أضواء، نيون، أمواج بشرية من كل حدب وصوب ، من كل قطر أغنية، سواعد رقيقة عارية لبنية اللون، حقائب متزحلقة، أصوات أنثوية تحملها الميكروفونات ، ابتسامات «مطعفرة» سلالم كهربائية، نهود ممتلئة)(5).

والرواية من خلال ذلك تضع ضمنيا الأمكنة والأوصاف في تضاد مع بعضها، فمقابل الينابيع الرقراقة، وممرات السيول، والأشجار التي من كل صنف، والهضاب المتباعدة التي تنمو فوقها حقول الزعفران، والمروج الوردية، والشلالات التي تأسر النظر.. الخ، هناك في الضفة الاخرى، دملان، المغارة، كوكبة من رجال مدججين بالرشاشات ومدافع الآربيجي والجنابي والقبائل والحقائب الدبلوماسية، قرية الزرائب، زرائب القات، رجال مقرفصون عند مدخل المدينة فوق صخور جبالها المتداخلة، وكأنهم جزء من تلك الصخور، يمتصون الأقتوم في سدر عميق وخدر لذيذ، سرب هائل من النامس الدملائي.. الخ.

وتواصل الرواية تصويرها الكاريكاتيري المتقن لدملان وعاصمتها «تنكا»، لتعيدنا إلى «شارع دغبوس»، مع أسماء وأماكن وأحداث أخرى، كما هي في بقية أجزاء الرواية، الجزء الثاني «سانت مالو» والجزء الثالث «علبة الصاردين».

وإن أورد الكاتب أسماء بعض الشخصيات الحقيقية، أو قدوم شخصيات مركبة (أي توحي بأكثر من شخصية) مما جعل البعض يتوهم القدرة على الإمساك بها، أو كاد على الأقل، أو أورد بعض الأماكن الحقيقية، فلا يمكن فهم ذلك إلا في إطار العمل الفني الروائي، أي أن الفن يعمل عمله بها، فيحلق بها بعيداً عن التاريخ والجغرافيا، ولا نعني بذلك عدم التماثل بقدر ما بين الفن والواقع.

لقد وقع البعض في فخ المطابقة بين الرواية كعمل فني متخيل، وبين الواقع، بين الفن وبين التاريخ والجغرافيا، ما حدا بالكاتب عمر طاهر زيلع، أن يكتب في صحيفة «عكاظ» السعودية: (لقد قرأت عن عدن كثيراً في كتب التاريخ المحايدة، بما فيها بعض كتب «الرفاق» ومنهم عبدالفتاح إسماعيل، غير أني قرأتها بدرجة أكثر عمقاً في «سانت مالو» و«دملان»، خورمكسر، والشيخ عثمان, والسيلة وزرائبها، و «زرائب منتديات القات» ومسجد «دعبوس» وشاطئ «جولدمور»، ومتاكئ القات تحت ظلال صخورها) (6).

وهو ما وقع فيه - أيضاً- الدكتور مسعود عمشوش في موضوعه الموسوم بـ «رواية السيرة الذاتية في اليمن - رواية (دملان) بين التوق إلى الخيال وفخ الواقع»(7) من خلال تأكيده على ما قاله (زيلع).

وكذا الحال بالنسبة للكاتب اليمني أحمد زين، الذي قدم قراءة سياسية لرواية «دملان» بعنوان («دملان» رواية حبيب سروري : عزلة كائن في مواجهة الوحدة اليمنية) حيث يشير إلى أن الرواية تتعرض على نحو غير مسبوق إلى تجربة الوحدة اليمنية وانعكاساتها على الواقع، إذ يجتاز السارد جملة شواهد لا يجيء اختيارها عفوياً أو بريئاً من شبهة الأيدلوجي، بل يصل إلى القول إن بلاد «دملان» التي تأخذ الرواية اسمها، لعلها تسمية مجازية للشمال.. هكذا للشمال!! ناسياً أن يقول لنا أي «دملان» يقصد العليا أم السفلى؟!!

لقد تعامل زين مع الرواية كوثيقة سياسية ليس إلا. صحيح أن أي عمل فني لا يمكن له أن يحلق خارج فضاء الواقع، غير أن التماثل مع الواقع غير التطابق معه. اختتم تناولتي المتواضعة هذه بقول دالاس مارتن: (حين نكون سريعي التصديق فإننا نستسلم للحقيقة الظاهرية في القصة دون أي شك منتقد في تخييلية القصة أو وعي نقدي لها).

المراجع: 1- انظر: مرتاض، عبدالملك، في نظيرة الرواية - بحث في تقنيات السرد، سلسلة «عالم المعرفة» المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت، عدد رقم 20 ديسمبر 1989م، ص 141.

2- عن خالد حسين حسن، شعرية المكان في الرواية الجديدة، كتاب الرياض، العدد 83، أكتوبر 2000م، مؤسسة اليمامة الصحفية، ص 63.

3- سروري، حبيب عبدالرب، رواية «دملان»، مؤسسة العفيف الثقافية، اليمن - صنعاء، أبريل 2004م، ص 7.

4- نفسه، ص 8،

5- نفسه، ص 11.

6- زيلع، عمر طاهر، صحيفة عكاظ، السعودية، العدد الصادر في 18 يناير 2004م.

7- انظر موقع

http:// www.yemenitta.com

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى