> «الأيام» د. هشام محسن السقاف:

ليس للمرء بد من أن يتجرع كأس فراق الأحبة، والحياة شريط طويل من الذكريات فيه ما يسر خاطر صاحبه عند استرجاع بعض فقراته، وفيه ما يكدر الخاطر أيضاً، وبين الحالتين لا يخلو الشريط من عبرة تستقى وخبرة تكتسب واللبيب من يفطن إلى ذلك.

وقد كان الفنان الكبير الذي غادرنا باكرا قبل عامين بالتمام والكمال الاستاذ محمد صالح حمدون أكثر من صوت جميل، مخملي بالتوصيف الدقيق، إلى ما هو أعمق من ذلك، بتجليات السيرة العطرة لكروان الأغنية اللحجية الذي تماهى تماماً في نسيج تجربته الفنية، وصارت خطواته في دروب الحياة كإيقاعات متناغمة في سلم موسيقي، بحيث أضفت شفافية الفن شفافية مماثلة في المسلك .. مسلك الرجل الحياتي اليومي، وصار بن حمدون أنموذجا للفنان الذي تتجلى مزايا الفن- إن لم أقل عبقريته - على كل تصرفاته، العاطفة المفرطة والأحاسيس الصادقة تجاه الآخرين إلى الترفع عن تدنيس أطراف الفن بالفنان من خلال حفاظه على مكانته اللائقة دون خفض جبين أو التقرب بصنيع عن طريق فنه لكسب مآرب ذاتية. لقد مرت في حياة (أبو وعد) منعطفات هامة كان أقساها على النفس تلك الفترة التي أعقبت روجان الغناء الأصيل في وقته الذهبي الممتد من الخمسينات الى منتصف الستينات أو ما بعده بقليل من القرن الماضي، وأصبح بن حمدون - وغيره كثيرون من الفنانين الحقيقيين- محاصراً بالإهمال الذي يصل إلى المحاربة غير المعلنة، لكنه ظل شامخاً بقامته التي لا تنحني، متوجا بحب الناس لفنه، ذلك الفن الذي لا يمكن تغييبه من الذاكرة الجمعية للمواطنين، ولذلك استطاع الفنان محمد صالح حمدون أن يتخطى حواجز التجاهل الرسمي له، ويصمد في وجه رياح السموم التي هبت على الوطن في سبعينيات القرن الماضي، مستعملا مفردات اعتزازه بفنه، ومبدياً استعداداً لمواصلة مشواره الفني، بالالتحام بالمواطنين مباشرة في الأفراح والاحتفالات التي يدعى إليها، وتخطى حواجز المنع إعلاميا - كلما أمكن ذلك- بشموخ وجوده الفني المحفور في قلوب محبيه، ومباشرته تجديد مكانته الفنية بالجديد من الغناء الأصيل وبالاعتماد على ذائقة موسيقية راسخة فيه، تعرف تماماً الأصيل من الرديء فلا تقدم إلا ما يضيف إلى أصالة ما قدمه ابن حمدون في سنوات المجد الفني بمجايلةٍ لكبار الفنانين: شعراء وملحنين من عبدالله هادي سبيت ومحسن أحمد مهدي وفضل محمد اللحجي ومهدي علي حمدون، ليتجدد لحناً وغناء وشعراً بصحبة فنية مثلى أبرز وجوهها عبداللطيف صالح أحمد والشيخ يحيى محمد فضل وأحمد سعيد دبا وغيرهم.

لقد هيأت لي الحياة أن أكون شاهد عيان على جزء من حياة فنان يوقد قنديل الغناء الجميل بزيت قلبه، رأيته صغيراً وهو يشمخ بكبرياء في وجه عواصف الزمان، وعلى قلة الخروج من صومعة الفن إلا أن الحمدون قد تنبه لجاره الصغير الذي يرنو إليه بما هو أبلغ من الكلام. وقد رأيته في مسرح الحياة اللاحقة كيف يتغلب على كل العقبات دون أن يتنازل قيد أنملة عن سموه الفني، ولست بحاجة - في هذا المقام- للتدليل على ذلك .. ثم نتشارك وجدانيا بعد سنوات من غيبتي في الخارج وضمن مجموعة مؤتلفة كـ (مصابيح الدجى) من أدباء وفنانين ومثقفين من أبناء الوهط وآخرين من خارجها، في وضع مبادئ الإخوة التي نهض عليها منتدى (الوهط) الثقافي.

وكان ما كان من نجاح حققناه بإتحاف لا مثيل له قدمه ابن حمدون في كل أماسينا الثقافية والفنية، وكأنه وجد ضالته في المنتدى، وبحب وبريق يشع من عينيه يتجلى في كل ليلة (خميسية) كان المنتدى يجمعنا فيها بالمحبة، ومنه عرفت الكثير من أسرار حياته الفنية وتجربته في سلم الصعود المذهل بعبقرية الصوت الذي لا يتكرر، ووجدت إجابات كثيرة على اسئلة مؤجلة منذ صباي كشف فيها عن الفنان الذي يمتزج فوران دمه بحب الفن والتجلي من خلاله والتعرف على مفردات الحياة عبر مفرداته. عرفت الكثير من اسرار عظمة غنائنا من خلال سيرة فنان لم ينفصم لحظة عن الفن، ثم ادركت أن جزءا من عبقرية الحمدون الفنية هي نتاج الثقافة التي يمتلكها هذا الرجل، وكأن ظهوره المبكر فنيا ولما يتجاوز الحادية عشرة من عمره قد هيأ له ان يتلقى ثقافته الفنية من كبار الفنانين المبدعين الذين لا تخطئهم العين أبدا امثال عبدالله هادي سبيت والعبادلة العظام وعبقري الأغنية اللحجية فضل محمد اللحجي، وفي غمرة ما اسمع وأدون - احيانا - من الفنان القدير محمد صالح حمدون في أوقات يجود بها المنتدى حين لا تكون هناك امسية ثقافية، وعلى قلتها، لم أدرك لهفة (ابو وعد) على قول الكثير في وقت قصير.. ولكني أدركت ذلك بعد الثالث عشر من اكتوبر 2003م حين توقف القلب الكبير، قلب محمد صالح حمدون فجأة وهو القلب الذي تدفق على مدى سنوات طويلة حبا وغناء وعاطفة لكل الناس، توقف ونحن في غمرة استعداداتنا للاحتفاء به وتكريمه، وهو الأمر الذي سيظل قائما حتى نستطيع عمل ذلك بالصورة التي تليق بفنان كبير أثرى حياتنا الفنية بكل ما يطرب ويفرح ويهفو له السامع .. ولعلها دعوة نوجهها الى الاخ وزير الثقافة والسياحة والسلطة المحلية في محافظة لحج ان يضعوا أيديهم بايدينا لتكريم فنان تفاخر به اليمن.