جناح آسيا الأيسر!

> حبيب عبدالرب سروري:

>
حبيب عبدالرب سروري
حبيب عبدالرب سروري
لم يُنغِّصني عنوانٌ مثل عنوان افتتاحية إحدى الصحف الحكومية الرسمية اليمنية أثناء زيارة وفدٍ يمني حكومي لليابان قبل أسابيع قليلة: «لقاء جناحي آسيا!». هكذا، بقدرة قادر: اليابان جناح آسيا الأيمن، واليمن جناحها الأيسر!

أفهم أن تكون اليابان جناحاً لآسيا لأنها ثاني قوة اقتصادية في العالم، وأول دولة آسيوية في القائمة السنوية للأمم المتحدّة الخاصة ب«مؤشر التنمية البشرية» في 177 دولة. إعجاز اليابان يكمنُ في أنه بلدٌ ذو جغرافيةٍ عدائيةٍ شرسةٍ، مُهشَّمٌ في أرخبيلٍ يزيد على 6800 جزيرة بركانية، 70 في المائة من مساحته جبال، تكتسحهُ الزلازل والتسونامي بانتظام. يخلو تماماً من الموارد الطبيعية ومصادر الطاقة! ناهيك أن اليابان كان حتى قبل قرنين فقط متخلفاً وأقل تطوراً من مصر! ثمَّ تدمَّر كثيراً في نهاية الحرب العالمية الثانية!...

أما إعجازُ اليمن فهو كونها آخر دول آسيا في القائمة الدولية لِمؤشر التنمية البشرية، رغم عائداتها المحترمة من مصادر الطاقة البترولية والغازية وتنوع وغناء ثرواتها الجغرافية والطبيعية والسياحية... ليس هذا فقط لكنها تهرول، سنة بعد سنة، نحو مؤخرة تلك القائمة على الصعيد الدولي. أُذَكِّرُ: كان موقع اليمن في تلك القائمة 144 في عام 2002، ثم تدحرجت في 2003 إلى 148، ثمَّ إلى 149 في 2004، وهي تصل هذا العام 2005 إلى 151! يبدو أنها ستواصل على نفس المنوال لأن ثمّة من أفتى أن مواصلة الانحدار في هذا البلد ضرورة تاريخية... أعتذر إذا كرَّرتُ سرد هذه الأرقام التراجيدية التي أحلم أن يُردِّدها كل مدرس، كل صحفي ومثقف وإمام مسجد، لأنها أبلغ وأعمق وأهم وأكثر تعبيريةً ودلالةً من أي خطاب.

بنجلادش، الدولة الآسيوية ما قبل الأخيرة، تسبقُ اليمن بـ 12 دولة في ترتيب قائمة مؤشر التنمية لهذا العام. تشهد نهضةً تعليمية واقتصادية مرموقة، وتقع الآن خارج القائمة السوداء التي تضمُّ آخر 32 دولة في ترتيب هذا العام. لم تعد بنجلادش مضربَ الأمثال في الجوع والبؤس والمرض وسوء التعليم في عالم اليوم. رموز اليوم الخفَّاقة: النيجر، سيراليون، بوركينافاسو، رواندا... والدولة العربية والآسيوية الوحيدة: اليمن!

ترجمتُ عنوان: «لقاء جناحي آسيا!» لمُتابِعين وزملاء سألوني كيف استقبلت اليمن رقم 151 هذا العام. لم يقهقه أحدهم عند سماع ذلك العنوان! واجهتني أعينٌ فاغرةٌ ووجومٌ جارح. لم يخطر ببال أحدهم أن إنساناً ما يمكنه أن يتجرأ كتابة عنوان كهذا. تلخَّص تعليقهم عليه، بعد صمتٍ كثيف واستغراب مُحرِج، بكلمةٍ واحدة: Pathétique، مثيرٌ للحزن والشفقة!

نعم، مثيرٌ للشفقة! لأنه لا يجوز معرفيّاً وأخلاقيّاً التشبيهُ والمطابقةُ بين القمة والقاع، بين السماء السابعة والأرض السابعة. بين رمزي النجاح والفشل العالميين النموذجيين: اليابان واليمن. بين جناحٍ غزيرِ الزغب، مفروشِ الشعر، متينِ الأشواك، فولاذيِّ القَصَبَة... وريشةٍ مُكرمَشةِ مهترئةٍ مُهشَّمة، تتساقط شعيراتها يوما بعد يوم. لو جازت تلك المقارنة لصارتْ قارة آسيا أشبه بتنينٍ أسطوري يحلِّقُ بجناح ديناصورٍ طائرٍ في اليمين وجناح جرادةٍ في اليسار.

لعلَّ اليمن تقع جغرافيّاً في غرب آسيا فعلاً. بيد أنها من منظور العصر «منقوفةٌ» من خارطة آسيا، تتفسّح في أدغال أفريقيا، تترنَّح في نهاية القائمة السوداء لمؤشر التنمية البشرية مع جيرانها الحقيقيين: أكثر دول أفريقيا بؤساً وانسحاقاً وتجانساً مع اليمن في المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية. يرفضُها جيرانُها الجغرافيون في مجلس التعاون الخليجي عاماً بعد عام لسبب منطقيٍّ جداً: يفصلها في قائمة التنمية البشرية عن بعضهم، مثل قطر والكويت، حوالي ثلثي دول الكرة الأرضية! أكثر من 110 دولة! ومع ذلك لا تنفكُّ الدولة اليمنية تنتظر عبثاً أن تحتضنها دول مجلس التعاون، فيما هي نفسها التي تواصلُ نفورَها وهرولتَها وابتعادَها عن أعضاء ذلك المجلس في قائمة التنمية البشرية، لِتجعلَ انضمامها لهم أكثر استحالة عاماً بعد عام.

لعل من يُديرون دفّة هذا البلد ينتمون إلى الطائفة الرابعة من البشر: «من لا يدري أنه لا يدري». إذ كيف يمكن أن يُكتبَ عنوانٌ كهذا: «لقاء جناحي آسيا!»، كيف يمكن الجرأة على تكرار طلب الانتماء لمجلس التعاون الخليجي في حين يُلغِي البنك الدولي أكثر من ثلث دعمهِ لليمن بسبب زيادة الفساد وسوءِ مؤشرات التنمية فيها!

أو لعلّ حكّام هذا البلد ينتمون إلى شريحةٍ نادرةٍ من تلك الطائفة الرابعة: «من لا يدري أنه لا يدري ويجتاحه الغرور المطلق في نفس الوقت»! إذ كيف يمكن عقدُ مؤتمرٍ للحزب الحاكم في اليمن كلّف ملايين الدولارات، وضمَّ عدّة آلاف من المندوبين (أضعاف عدد مندوبي مؤتمرات أكبر وأعرق أحزاب العالم)، تبجَّحَتْ خلال أيام انعقاده أثرى وأغلى سيارات العالم في شوارع إحدى أفقر مدن العالم وأكثرها جراحاً ونكبات: عدَن!

لو تمَّ استثمار تلك الملايين من الدولارات، بجانب الارقام الفلكية التي تضيع فسادا ونهبا كل عام (تحت مسميات شتى منها الدعم الإضافي) لِتوظيفِ العاطلين وخلق نهضةٍ تعليميةٍ وصحيّةٍ واقتصادية، لارتفعتْ بالتأكيد مؤشرات التنمية في اليمن لتسمحَ لها بالتموسق مع جيرانها في مجلس التعاون الخليجي. جيرانُها الذين لا يدَّعون، رغم إمكانياتهم الاقتصادية الكبيرة، أنهم «جناح آسيا الأيسر»!.

آه، ما أرهب السقوط على إيقاع هذه المواييل الكابوسية: 144، 148، 149، 151!...

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى