نظرة في أدب شمس الدين البكيلي بين المغايرة والمماثلة في النص.. والكتابة في صمت!

> «الأيام» أديب قاسم:

> ومن (الصمت المضطرم) ومن (همس الجنون) اللقاء الأول للحب.. يصور لنا شمس الدين البكيلي في «حيرة وصمت»:نشوة اللقاء «ذات يوم.. كنت بالقرب من حبيبتي.. أمام شاطئ يعبث بنفسه.. والقمر يسكب أشعة على بياض وجنتيها .. كشف عن لؤلؤة في المحار.. وكنت أنصت لحديثها.. فكأنّ في نبرات حديثها اهتزازات وتر يردد نغمة حزينة .. فصلت أنسجة جسدي عن جسدي.. وأحسست حينها بأن تأثيرات النفس وخلجاتها قد خرجت عن السيطرة المعهودة..».

تم يمضي بعيداً حيث: «تلاطمت الأمواج بالصخور وتطاير رذاذ الموج على صدرها»!

وبين أصطخاب الموج وهمس النسيم للشاطئ، تتحرك هذه القيمة التعبيرية:

«انا حائر

بين صمت وكلام

أنا مسجون وقلبي

بين قضبان الغرام

في سجون الصمت قامت كلماتي

رغم أني أحترق!!»

فالأديب البكيلي (في دائرته الجبرانيةü بما فيه من طابع المماثلة في الأسلوب أو في مضامين وطرائق النص) أخذ يقترب من هذه الرؤية الداخلية العميقة في الأدب المهموس، أي الكتابة في صمت!.. ومع تكثيف الصورة في النثر الذي يقف على مستوى اللغة الشعرية، ولكن ليس كالشعر الذي يستدعي، بالضرورة، بعض الغموض حتى لا يتسطح ويتحول إلى رؤية نهارية صارخة.

وإن كان شمس الدين يذهب أحياناً مذاهب النثر الفني في القرنين (السابع - والثامن الهجري) فيغمس لقيماته في هذا أو ذاك الوعاء ويبيت ليلته عند الشيخ صلاح الدين الصفدي:

«فوصلنا إلى بستان قد أخذ زخرفه وتزين، وفاضت عيونه غيرة من نازلية وتلوّن.. وجرى النهر بين أيدينا متواضعاً بسجوده، وشبّ الشحرور بمنقاره لما تغنى الهزار على عوده، وقد رق نسيمه وراق، وجذب الحمائم إلى الغناء بالأطواق:

أظن نسيم الروض للزهر قد روى

حديثاً فطابت من شذاه المسالك

ثم يعود الصفدي إلى نثره.. واصفا ذياك البستان، مسترسلاً، ومطوّفاً في جنباته.. ويفيض منه إلى الشعر بعد كل قطعة وصف.. وكأنما هو الترجيع.. ترجيع الكروان.

وها هو شمس الدين يمر بالدرب القديم فيسلم عليه، ولكن على طريقته الخاصة وفيها خسسصوصيته (وقد تجاوزنا صيغة السجعية ) وأبقينا شيئاً من التماثل لندلل على صيغة الوصفية حيث يقدم لنا النص المغاير من خلال تصاويره لمراكب الشمس.. ومن ثم ينتهي إلى الشعر كما ينتهي الصفدي:

«.. تلاشت خيوط الشفق.. وبسط الليل جناحيه وقد نسج من شعرها (؟) ظلالاً على لونه الأملد.. وتزينت السماء بأجمل حليّها المرصعة باللؤلؤ والجواهر الأخاذة، التي كلما ازدادت بريقاً ولمعاناً أضفت على الكون سحراً وجمالاً وروعة...

سألتك بالله لا تبعدي

فقد عيل صبري وطال غدي

أتاني البشير بموعدنا

وها أنا أهفو لذا الموعد

فهذي القلوب على بعدها

أراها تلاقت على موعد

صعدنا على نجمة ثرّة

تموج بصدر السما الأغيد

وقد نسج الليل من شعرك

ظلالاً على لونه الأملد

عليها اختلينا وفي حضنها

نروم الممات ولا نعتدي

سكرنا بخمر الهوى مرة

ورشف الرضاب الشهي الندي

ورحنا نشيد فيها الحياة

ونغرس فيها منار الغد

أرى القمر يتركنا خلسة

فبالله يا شمس لا تصعد

وفي تلك اللحظات الساحرة سحر جمالها.. ضمتني إلى صدرها وسقتني من رحيق شفتيها الورديتين شهد الرضاب .. وتنهد كل منا نهدته الطويلة الممزوجة بسحر اللقاء.. وحينها تلاشت من أفكارنا هموم الحياة ومشقاتها حتى أدركنا الوقت..».

ليس من العيب أن نمضي هكذا، وحتى إلى ما لا نهاية، خلف (الجبرانيات) وخلف (نظرات) و(عبرات) المنفلوطي.. ثم سحاب الرافعي (السحاب الأحمر).. سلسلة الرومانسيات التي توقفت.. في «حقبة الواقعية الاشتراكية» ومع تكثف سحب الواقع المادي.. وقد كنا حتى (الستينيات) من القرن العشرين نتوقف عند (نشيد الإنشاد) ونتلمس الطريق في دروب الحب ، فلا نجد أحسن من هذه القطعة الأدبية الرائعة: «ها أنت جميلة يا حبيبتي ها أنت جميلة.. عيناك حمامتان.. ها أنت جميل يا حبيبي وحلو وسريرنا أخضر. كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي، تحت ظله اشتهيت أن أجلس وثمرته حلوة لفمي، أجاب حبيبي وقال لي قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي لأن الشتاء قد مضى.. قومي يا حمامتي».. إنما العيب أن نحيا وقبل أن تنقضي دورة الحياة والأحياء، ولا نستمرئ كلمات الحب!

وفي هذا أرى غير ما قد يراه البعض - ربما - فيما يكتبه شمس الدين البكيلي من أنها كتابات مطبوعة بطابع اللألاء اللفضي المسرف بالنداء البلاغي، والحث والتأكيد الإنشادي.. وحيث أن الأسلوب الغنائي يثير الطبقة المتوسطة والأدنى من القراء.. أرى أن هذا الأسلوب الذي قد لا يقنع القارئ المثقف المدرك لهذا الاطناب البلاغي الوصفي هو الأقرب إلى «النزعات الانسانية» التي لم يعد لها من مكان، في ظل تراكم رؤوس الأموال والحديث عن الاستثمارات والسعي لتملك السلطة، في ظروف الازمات السياسية والاقتصادية وأشكال العنف التي يشهدها عصرنا!.. وفي مثل هذا المناخ النفسي الاجتماعي ظهرت كثير من هذه الكتابات، بعضها اتخذ المرجعية الدينية وبعضها الآخر الاندفاعات العاطفية الجمالية كرد فعل للاتجاه المادي.. وهكذا يمكن عودة النزعات الانسانية الطاهرة.

فتحس، من هنا، أن اقتراب شمس الدين البكيلي من هذه الرؤية، ظهر ليغطي نقصاً في احتياجاتنا الثقافية إلى لغة خالصة للأدب، وحيث ذهب بعيداً ليفتش عن بكارة تلك اللغة المنسية - أوعن الزمن المفقود (لا نقول عن الماضي الجميل، ولكن عن الأحاسيس الانسانية) والذي يتركز بالانطباعات الحسية، كما يرى توماس وولف: «من خلال بعث واستحضار الرائحة والأصوات والألوان والأشكال والشعور بالأشياء بوضوح ملموس».

إذن، كان لا بد وأمام هذه التراكمات المادية أو نزعات التفكير المادي في هذا العصر، من أن تعمل هذه الظروف على إفراز بعض التحولات الإنسانية أو الظواهر في ميدان الأدب ( نثر يحتفي بالصور الفنية) نثر يتميز بلغة شاعرية، وإن يكن أعرض من الحياة كتهويمات رومانسية حالمة (غنائية) حيث لا بد من التوقف هنيهة في غضون عنت الحياة، لنحدق صوب الأضواء البعيدة المنبعثة من نوارة أو نوافذ بيت تغمره السعادة حيث قال أحدهم:

«هنالك من يعزف تلك المقطوعة الموسيقية الحالمة الرائعة عن الليل... وفيها نستطيع أن نستجلي الليل وضوء القمر .. إنها موسيقى نلجأ إليها لننفث فراغ نفوسنا». ومثلما بدت رومانسيات شمس الدين البكيلي الرائعة وما نسميه (الكتابة في صمت) وهي تغسل أدران القلب، ولتظهرنا من أعلاق المادة، ومما أصاب وجه الحياة من فساد سياسي وأخلاقي.. وإذ تعيد إلينا هذا الوجه الضائع من وجوه الأدب.

نسبة إلى جبران خليل جبران

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى