حبيب سروري.. المهندس والأديب في دملان

> «الأيام» د. معن عبدالباري قاسم:

>
حبيب سروري
حبيب سروري
بناء على دعوة كريمة تلقيتها من زميل الدراسة الجامعية طيب الخلق والمعشر الأخ عبدالرحمن عبدالخالق، رئيس اتحاد الأدباء والكتّاب- فرع عدن، للمشاركة في أمسية ثقافية بالمركز الثقافي الفرنسي، وذلك لاستعراض ما تيسر استعراضه من رواية «دملان» للبروفيسور العدني المولد الفرنسي الجنسية حبيب سروري على هامش زيارته الصيفية السنوية إلى مسقط رأسه في أغسطس 2005م. كنت قد قدمت قراءة متواضعة لتلك الرواية من منظور سيكولوجي، ولأنه شتان بين ما يرتجل في دقائق محشورة تقتضيها قواعد المكان والزمان للفعاليات في مثل هذه المناسبات وبين إسهاب السطور المنثورة في صدر الصفحات المقروءة لوسائل الإعلام أو دوريات البحث والتوثيق.. لهذا سأحاول ومن خلال بضعة مقالات أن أتناول رواية "دملان" برؤية سيكلوجية لعلها تجتمع يوما ما في دراسة متكاملة حول الرواية ومؤلفها.

النضج التخصصي

تشير بعض الدراسات السيكولوجية (إنانييف 1966) إلى أن هناك فروقا في النضج التخصصي بين المشتغلين بالعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، حيث يكون النضج في حقل الاختصاص مبكرا لدى علماء الرياضيات، الفيزياء والكيمياء، والتي تقدره تلك المراجع بأنه يكون ما بين السنوات 27- 29 سنة من سنوات عمر أولئك الاختصاصيين، في حين يصل النضج الاختصاصي (المهني) لدى المشتغلين أو المتعاطين للعلوم الإنسانية ما بين السنوات 30- 45 سنة، على أن تلك القاعدة لا تعني عدم وجود استثناءات وخصوصا في العلوم الإنسانية، ففي الأدب العالمي نجد أسماء لمعت مبكرا في حياتها من حيث قدرتها على العطاء والانتاج الأدبي العظيم امثال الأدباء الروس (بوشكين، ليرمنتوف، مايكوفسكي)، الإنجليزي أوسكار وايلد، الفرنسي رامبو والأسباني لوركا، وعربيا ويمنيا كانت العطاءات المبكرة في مسيرة حياة بيرم التونسي، سيد درويش، محمد عبدالولي نموذجا تاريخيا لجيل الشباب المبدع في الأدب العربي والداعي إلى الاستيقاظ والتحرر من عصور العبودية والاستعمار.

تفيدنا قراءات السير الذاتية لحياة الأدباء والعلماء من المشاهير في مختلف العصور بتنوع اهتماماتهم إلى درجة شيوع شهرتهم من خلال تغير اختصاصات ومجالات نشاطهم سواء المهني أو الذهني، فلقد عرف عن الأديب الألماني جوته جهوده الحثيثة لدراسة قوانين فيزياء الضوء وتوزعه من خلال طيف الألوان في المنشور الزجاجي، إلا أن الحقيقة النهائية في محصلة جهوده تلك والتي وصل إليها شخصيا وعززها لديه بعض زملائه من كبار العلماء آنذاك في العلوم إلى إن ميدان عطائه وإبداعه الحقيقي ليكون فارسه اللامع، إنما هو الأدب. ذلك الحال كان مع الرسام الإيطالي الشهير ليوناردو دافينشي والذي عرفت عنه اهتماماته الكبيرة بعلم التشريح والهندسة المكيانيكية. من الجانب الآخر حاول بعض الأطباء والعلماء في العلوم الطبيعية الخوض في الأدب وكتابة الروايات والشعر ولكن ذيوع شهرتهم المهنية وعطاءاتهم في حقل الاختصاص دثرت تلك الجهود (كما كان الحال مع الطبيب النفسي النمساوي سيجموند فرويد الذي اشتهر بالتحليل النفسي أو العالم الفيزيولوجي الأمريكي سكنر الذي اشتهر بتطبيقاته لنظريات التعلم السلوكية وغيرهما كثر).

على أن آخرين كان لهم حظ أوفر بل والبعض منهم فاق شهرته وعطاؤه في الأدب عنه في مجال اختصاصه، ولعلنا نذكر على سبيل المثال لا الحصر هنا من جيل المشاهير في القرن العشرين الطبيب الروسي تشيخوف والطبيب الفرنسي البير كاميه والطبيب المصري يوسف إدريس، إن كل أولئك معروفون عالميا وعربيا بفضل روائعهم الأدبية والإنسانية المتميزة.

أعتقد - إن جاز لي قول ذلك- بإن البرفسور حبيب سروري يمكن أن يمثل إضافة جديدة ضمن قائمة القرن الحادي والعشرين من خلال روايته الأخيرة «دملان».

أي أنه أصبح لدينا مهندس وأديب يمني يحق لنا أن نفتخر بكليهما في وقت واحد ولشخص واحد، والاكثر مبعثة للافتخار هو تفوقه في خاصيتين: الأولى قدرته على الاحتفاظ والتواصل لنشاطه الذهني في مجالين متآزرين في نشاطهما العصبي المركزي لشقي الدماغ وفقا لنظرية حصر المراكزالدماغية (لوريا 1983): الشق الأيسر والذي يعبر عنه من خلال اهتمامه بهندسة الحاسوب كنشاط في العلوم الطبيعية ذات خاصية أكثر تجريدية من حيث التعامل مع الرموز والأرقام، والشق الأيمن من الدماغ الذي يعبر عنه من خلال اهتمامه بأدب الرواية كنشاط في العلوم الإنسانية اعتمد على توظيف اللغة، الحروف والكلمات للتعبير عن المشاعر، الذكريات بنفسها الزماني المكاني والإنساني المتعدد الابعاد. الخاصية الثانية انه استطاع أن يتجاوز حدود الثقافات- عبر ثقافي - حيث انعكس ذلك في أن فرنسا شكلت بيئة وفرصة الانطلاق والعطاء والاختصاصية المهنية في علوم الهندسة الحاسوبية، وبالتالي بيئة وفرصة مشجعة على تحقيق، تطوير، تأكيد الذات في الاتجاه الإيجابي المبدع لصياغة شخصية حبيب المهنية.

من كل ما تقدم نوجز بأن قراءة سيرة حياة البرفسور حبيب سروري تأكيد لمضمون ما أفادتنا به تلك الدراسات في علم نفس الشخصية.

فسيرة حياة البرفسور حبيب المنشورة عبر الانترنت على الموقع www. abdurab.free.fr- تفيدنا بأن حبيب المولود في عدن عام 1956م قد دشن حياته الاختصاصية المهنية بحصوله على الماجستير بامتياز في الرياضيات التطبيقية (قسم الكمبيوتر) 1983م من جامعة روان الفرنسية أي وعمره 27 عاما، وهو ما مكنه من العمل كمهندس أبحاث في مركز نقل الأبحاث النظرية للمجالات الصناعية التابع للجامعة، ومن ثم نال الدكتوراهPh.D) ) في العام 1987م أي وعمره 31 عاما حيث صار أستاذا مساعدا في علوم الكمبيوتر في المعهد القومي للعلوم التطبيقية في روان (أحد معاهد شبكة من خمسة معاهد قومية في عموم فرنسا، يتم الدخول لها عبر نظام مسابقات للمتفوقين على مستوى فرنسا ويخرج فيها حوالي عشرة في المائة من كبار المهندسين في فرنسا). أما عن نتاجه الإبداعي الأدبي المنشور بروايته الأولى «الملكة المغدورة» عام 1998م وعمره آنذاك 42 عاما تلتها رواية «دملان» الصادرة في عام 2004م وعمره حينئذ 48 وهي ما يمكن أن نعتبرها بحق قمة عطائه الإبداعي حتى الآن وواحدة من أهم الرويات - على قلتها في الأدب اليمني - والتي تمثل سجل توثيق لحياة مرحلة تاريخية في مسيرة الإنسان اليمني المعاصر. إدراك حبيب بحسه ربما الفطري، بمنشئه وتكوينه السيكولوجي والاجتماعي المرتبط بمسقط رأسه أن بيئة وفرصة الانطلاقة الابداعية في مجال الأدب والرواية تحديدا سيكون أكثر حظا، توفيقا، ازدهارا، استمرارية من خلال لغته العربية تصويرا وتوثيقا لبيئته اليمنية بحلوها ومرها، سلبا وإيجابا، فرحا وحزنا، إعجابا وكرها، استذكارا أو نسيانا، إن في استرجاع تناول كل ذلك بلغته وفي وسط قومه عنه هناك في فرنسا إنما يحقق ذاته أكثر من خلال حالة التفاعل المتبادلة مع أبناء وطنه كانت سلبية أم إيجابية أكانت قبولا أو رفضا اليوم أو غدا. نجح البرفسور حبيب في «دملان» بجعلها نسقا إطارا شاملا لسيرته والكثير من أبناء جيله والأجيال المقاربة لسنه (سيجد الكثيرون ممن يحاكونه في الذكاء والشخصية أن الرواية تذكير، حنين لواحدة من أجمل محطات العمر لحياتهم الشخصية- استذكرت نفسي أعيش في العديد من صورها وأحداثها).

أستاذ علم النفس المشارك - كلية الطب/ جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى