يافع .. مَضَافَةْ سعدية .. وجبل زينب

> فضل النقيب:

>
فضل النقيب
فضل النقيب
لم تعد قرية «القدمة» تلك التي عرفتها في طفولتي، لقد ضاقت بنفسها وبأهلها ولم يعد فيها شبر واحد من المشاع، وسعيدٌ من يجد فيها مرقد عنز كما كان يقال عن جبل لبنان في عصره الذهبي، أما أسعار ما جرى وضع اليد عليه فتنافس أسعار شارع الشيخ زايد في دبي الذي تقول إعلاناته أنه الأغلى في العالم، وعندما تسمع عن مئات الآلاف من الريالات فلا ينصرف ذهنك إلى الريال اليمني.. إنهم هناك يتحدثون بالعملات الصعبة، بالريال السعودي والدولار الاميركي، وهناك كثافة في العمران وشحة في السكان لأن غالبية الذين يعمرون يقيمون في المهاجر وربما عادوا في العام والعامين لمدة شهر أو شهرين، وقس على ذلك بقية القرى في الهضبة اليافعية التي تحيا وتنتعش في الصيف وتهدأ وتستكين في بقية الفصول.

بحثت عن «الحيد الأحمر» الذي كنت أمر به في طفولتي مسرعاً في طريقي إلى معلامة الفقيه عبدالله المطري في قرية «المصنعة» المجاورة خوفاً من أن تتخطفني الجن، فهناك كانت تذبح الأبقار، وحيث يوجد الدم يوجد الجن في الوعي الشعبي، ولكنني لم أجد الحيد، ويبدو أن الجن من البشر قد تولوا أمره، وعلى كل حال ففي الوادي المشترك لعديد القرى المحيطة والذي ندعوه «القاع» يوجد جبل «الدّرفان» الذي يسكن فيه ملك الجان «ملقاط» ويلزم تقديم فدية له في حال طلب خدمة منه، وقد زرت الجبل نهاراً فوجدته يطل على مجاري السيول المحفورة عميقاً في الصخور في طريقها من المفلحي إلى أرض «العياسئ» فوادي بنا، ولا شك أنها تصدر أصواتاً مدوية تردد صداها الجبال المحملقة من كل الاتجاهات فيكون لـ«ملقاط» نصيبه من الهيبة والسمعة المخيفة وخاصة في الليل البهيم، وعلى كل حال فلم يجرؤ أحد حتى الآن على البناء في جوار ملك الجان المزعوم.

تسللت إلى الجزء القديم من القرية حيث ولدت وترعرعت فوجدته على حاله إلا أنه شبه مهجور يشكو الإهمال والنسيان، وأنا متأكد أن كثيرين يذهبون إلى هناك لكي ينعشوا أرواحهم بقبس من الماضي الذي عناه ابن الرومي حين قال:

وحبّب أوطان الرجال إليهمُ *** مآرب قضاها الشباب هنالكا

أخذت حفنة من التراب من جوار بيتنا المهجور الذي بُني عام ثمانمائة وستين للهجرة ولكنه مازال يقاوم الزمن، وتشممتها بملء رئتي فكانت أعطر من المسك وأزكى من الزعفران، ثم أسندت ظهري إلى الجدار حيث كنت أتشمس في الشتاءات الباردة وأغمضت عيني فإذا بالحياة تدب كما كانت في الزمن القديم، وحين استيقظت أدركت أنني كنت في حلم حميم:

كأنّ قطاة عُلقت من جناحها *** على كبدي من شدة الخفقان

عدت إلى بيت أختي الكبيرة سعدية «دار بن ناجي» البيت المضياف الذي لا تنطفئ ناره ولكم حاولت أن أحصي عدد الأفواه التي تأكل فلم أستطع لكثرة الصبيان والصبايا، ولكم حاولت أن أساعد فلم يقبل أو يسمع مني أحد: يا خال خير الله باسط، وفضلك سابق، يقول لي محسن قاسم ابن أختي الكبير الذي يسير حياته بدقة الساعة فهو لا يدخن ولا يتعاطى القات وتتمنى أن تراه بلا عمل يشغله فيعجزك التمني. أقول له أما خير الله فنعم بالله الذي لا تنضب خزائنه، وأما خيري السابق فأنا أشكرك على المجاملة اللطيفة. بالمناسبة محسن لديه تسعة من الأبناء والبنات وهو يقوم على شؤون ذلك البيت الذي لم أستطع إحصاء أفواهه لكثرة الفروع التي تفد إليه. وكلما رأيت أختي التي أعتبرها أمي التي رحلت مبكراً، أردد بيت المتنبي:

ولو أن النساء كمن عرفنا *** لفضلت النساء على الرجال

أخذني أحد الشباب إلى السطح قائلاً: تعال أفرجك على جبل زينب، لم يسبق لي أن سمعت بهذه الاسم لجبل في الجوار، وعندما أراني قلت له: هذا جبل ذي مرسوع وهو اسم حميري يعود لآلاف السنين. قال لي: في وقتنا هذا اسمه الجديد. أما زينب فابنة الشيخ علي عبدالله العيسائي وحرم رجل الأعمال محمد عبدالحافظ بن شيهون، وقد اقتحمت الجبل بعزيمة لا تغلب فشقت طريقاً إلى قمته وأخذت توجه بالبناء على مساحة كبيرة منه وهو بناء فخم ضخم ما زال يتخلّق.. قلت للشاب: اليمنيون عموماً يعتزون بملكاتهم أكثر من ملوكهم وزينب من أقيال «حِميَر» .. مبارك عليها الاسم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى