الفيصل بين السلطة والمعارضة

> د.عبده يحيى الدباني:

> إن ما أكتبه هنا هو مجرد تأملات فيما جرى ويجري وما قد يجري مستقبلاً في رحلة السلطة والمعارضة في بلادنا عبر الطريق الطويل الشائك. لكنني أعترف بدءاً أنها ليست تأملات فلسفية، كلا ولا تحليلات سياسية متخصصة ولكنها أقرب إلى أن تكون تأملات أدبية وجدانية تبعاً لميول صاحبها.. أرجو أن يكون حظها من الحقيقة التي ننشدها مقبولاً وهي قبل ذلك وبعده تأملات محايدة ومجردة من أي تعصب أو هوى شخصي ضيق وبعيدة عن الحدة والانفعال والعنف الكتابي أو الصحفي إذا جاز التعبير.

لقد رأيت أن المعارضة في بلادنا كثيراً ما تشتط وتستعدي السلطة الحاكمة فهل هي مدفوعة دفعاً لتسلك هذا السلوك؟ أي هل تعامل السلطة مع المعارضة جعلها تنحو هذا المنحى الاستعدائي الذي قد يضر أكثر مما ينفع؟ ورأيت فيما رأيت أن السلطة وأجهزتها وإعلامها تستعدي المعارضة وتستخونها وتهمشها وتنصب لها فخاً من وراء فخ على ما في هذه المعارضة من ضعف مزمن. أجل لقد صرنا بين سلطة ترى كل شيء في البلاد أبيض ناصعاً كاللبن لا تشوبه شائبة، وبين معارضة ترى كل شيء أسود حالكاً كالفحم، الإجماع الوحيد في هذه البلاد هو أن الجميع يشكو من الفساد حتى الفاسدون أنفسهم، ولكن لكلٍّ فلسفته للموضوع سواء السلطة أم المعارضة أم من كان محايدا. نعم أيها القارئ العزيز إن كثيراً مما تكتبه المعارضة وتلهج به يملأ النفوس باليأس والإحباط السلبيين حتى لم نعد نرى شيئاً إيجابياً واحداً في حياتنا، ونحس وكأن القيامة قد قامت أو أن الطوفان قد حل، لقد أصبحنا حيارى مذبذبين بين سوداوية المعارضة وجحودها وجمودها وبين كذب الإعلام الرسمي ونفاقه ودبلجته وبهلوانيته. ترى أيهما الفعل وأيهما رد الفعل؟ أيهما السبب وأيهما النتيجة؟ ولمصلحة من كل هذا التخدير والتزوير والتوتر وسيادة مناخ الاستعداء في العلاقات السياسية والاجتماعية وشيوع سوء الظنون والتوجس وعدم الثقة في وسط الجميع، ففي هذا الجو تضيع الحقيقة وتصبح (عنقاء مغرب).. لماذا نفهم الديمقراطية على هذا النحو الخطير القاصر حتى تصير وبالاً علينا؟

فعلينا جميعاً أن ننبذ الاستعداء والاستعلاء فهما أبداً لا يخدمان الوطن ولا الشعب، وأن نعي جيداً أسس العلاقة بين المجتمع والدولة فهي ليست عدائية ولا استعدائية ولا ينبغي أن تكون كذلك إذا ما انطلقنا من القيم الاسلامية أو حتى من القيم الإنسانية الفطرية، فالدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإطفاء النار لا يكون أبداً بالنار نفسها، بينما الماء يطفئ النار في أشد سعيرها، لأن ما ننشده هو الخير والرخاء وتوخي الحق والمصلحة العليا للوطن وليس طلب الثأر أو التجريح أو التشويه أو الشماتة أو التربص أو الكسب الرخيص أو الابتزاز سواءً كنا سلطة أم معارضة أم محايدين، فالتكامل والتنوع والتعدد عوامل إيجاب وبناء فلماذا نجعلها عوامل سلب وهدم؟ إننا مؤتمنون ومسؤولون أمام الله تعالى عن هذه السفينة التي تمخر عباب البحر ألا وهي سفينة الوطن، فهل نرضى أن نقودها إلى بحر من النار حتى تغرق فيه كما حدث لكثير من بلدان الأرض، وما الصومال والعراق عنا ببعيد، حتى نرضي رغبات مريضة وثأرات وعقداً سخيفة ونفعل كما فعل نيرون روما عندما صعد تلاً وشرع ينظر إلى روما وهي تحترق من تحته، فيوم ذاك - لا سمح الله- لن نستطيع أن ننظر كما نظر نيرون لأننا جميعاً سنكون في أتون المحرقة مهما ظن البعض أنهم ناجون.

الوطنَ.. الوطنَ .. أيها العقلاء يا أبناء بلقيس وذي يزن وأبي موسى الأشعري وموسى بن النصير وأروى الصليحية ونشوان الحميري وغيرهم من الافذاذ الذين أخلصوا وصدقوا قديماً وحديثاً، فالوطن ليس أبداً للمتاجرة أو المزايدة أو المكايدة أو الاستحواذ والاستئثار أو تفريغ العقد والمشاكل الفردية أو الفئوية التي لا تساوي شيئاً أمام قضية الوطن ووحدته ومصلحته العليا، فالوطن ليس بقرة حلوباً يستدرها ثلة من الناس زمناً ثم يرمون بها، كما أنه ليس فندقاً سياحياً أو متنزهاً .. إنه الوطن.. وصدق ابن الرومي حين قال:

ولي وطنٌ آليت ألاّ أبيعه

وألاّ أرى غيري له الدهر مالكاً

وربط الزبيري بين القول الشعري في حب الوطن وبين الفعل الموازي له في غربته وعودته واستشهاده حين قال:

وما الدنيا سوى وطني إذا لم

أجده لم أجد فيه نصيباً

ولو أني حللت ربوع نجم

هممت به إلى الوطن الوثوبا

لا ريب أن هناك آفات سياسية واقتصادية واجتماعية وتراكم مشاكل ومظالم وآثار حروب وفساداً تدب في جسد الوطن، ولكن ما هو سبيل النجاة والخلاص من كل ذلك، هل هو التوتر والاستعداء وصب الزيت على النار بدلاً من الماء؟

هل نقد المعارضة الناري المتأزم وهجوم السلطة البركاني بما فيه من تهديد ووعيد سيكونان الحل أو المنقذ؟ لا أظن ذلك البتة، إنما الحل يكمن من وجهة نظري المتواضعة في الحكمة والموعظة والبصر والبصيرة والصبر والتأني والحلم والتضحية والإيثار في سبيل الوطن ونهضته ورخائه وكذلك في الجلوس على طاولة الحوار وقاعدة لا ضرر ولا ضرار. فلنكن دعاة صلاح وإصلاح إينما كنا. قال تعالى:{فأمّا الزَّبَدُ فيَذهب جُفاءً وأمّا ما ينفع الناسَ فيمكُثُ في الأرض}.

إن المطاحنات والصراعات واحتكار الحقيقة والرأي والخروج عن ولي الأمر الذي يمكن إصلاحه هي عوامل الدمار والكوارث والانتكاسات والتصدعات العميقة والسقوط المروع في يد الأعداء المتربصين عبر التاريخ. فماذا جنى مجتمعنا العربي الإسلامي مثلاً بعد مقتل عثمان ] في داره صائماً؟ وماذا جنى من ثورات الشيعة والخوارج وغيرهم من المعارضين التي ظلت تشتعل خلال العصر الأموي كله؟ لا شيء سوى الضعف والتقهقر الجمعي والجراح المثخنة الغائرة والندم العاصف وغضب السماء والسقوط المروع.

وهكذا فنحن أحوج ما نكون في بلادنا إلى علاقة طبيعية متوازنة بين السلطة والمعارضة وسائر الناس بعيدة عما ذكرناه، وإلى أجواء طبيعية مناسبة تسود هذه العلاقة التي يترتب عليها مصير الوطن والأمة إن سلباً وإن إيجاباً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى