ذكرى من باب الخلود للمنكود في زمن الجحود

> «الأيام» مازن سالم صالح:

> وصف عند رحيله بأنه كان ضمير أمته، فتوالت بيانات نعيه ترثي ذكراه.. لكنه حتى في تأبينه كان (منكوداً)، فبمجرد انتهاء العام الذي رحل فيه بدأت تتلاشى جذوة الشعور بفقده، ولعل ما يؤكد ذلك أن أشهر الدوريات العربية السيارة التي وعدتنا بملف خاص يليق بمكانته الأدبية المرموقة لم تف بوعدها حتى الآن، ولم ير هذا الملف النور بعد، إن لم يكن مجرد فورة حماس تجلت حينها، ثم ما لبثت أن تلاشت رويداً رويداً بعد أن طوينا صفحة العامين منذ رحيله، ولما يزل هذا الملف في طور الإعداد والتجهيز.

ورغم كل ذلك يظل عبدالرحمن منيف، قامة روائية عربية سامقة، أكدت حضورها الإبداعي ووفاءها العربي عملاً وقولاً عبر العديد من أعماله الروائية ومواقفه القومية ورؤاه الثقافية التي لم يتزحزح عنها قيد أنملة منذ أن تبناها وحتى رحيله.

يقول الناقد على الراعي في كتابه (المرجع) «الرواية العربية في الوطن العربي» عن رواية شرق المتوسط لمنيف: هذه رواية شجاعة مرهفة الحس، تحب الإنسان حتى الجنون وتتفجع لمصيره حين تصادر حريته وسعادته وجسمه وشرفه وتمجده حين يصمد وتحدب عليه حين يسقط، وتوضح شقاءه إن مظلوماً كان أو ظالماً، وطيلة السبعين عاما التي عاشها منيف في دنيانا الفانية إلا انه ظل وفياً لإبداعه ومثالاً للأديب الملتزم بقضايا أمته، حيث لم يخفض جبينه الشامخ يوماً، إذ لم يقف مطلقاً في ظل حاكم ما أو نظام معين وكان على حد تعبير الناقد فاروق عبدالقادر، المواطن العربي الاشمل كوسام يغنيه عن الجوائز التي تجاهلت إبداعه كثيراً ما عدا جائزة سلطان العويس الثقافية للرواية العربية.

قد يكون منيف بدأ مشروعه الروائي متاخراً نوعا ما، ففي الاربعين من عمره صدرت له أول رواية «الاشجار واغتيال مرزوق» عام 1973م ومعلوم أن منيف مولود في 1933م في الأردن لأب سعودي وأم عراقية، لكن ما يطيب خاطره أن مشروعه الروائي الكبير قد أتم رحلته الى بر الأمان قبل رحيله بأربع سنوات عبر ثلاثيته الرائعة «أرض السواد» عام 2000م واكتمالاً بهذه الثلاثية وبدءاً من الاشجار واغتيال مرزوق استغرق مشروعه الروائي الهادف الوقوف على محطات عديدة منها «قصة حب نجومية، وشرق المتوسط، والبدايات والنهايات، وسباق المسافات الطويلة، ومدن الملح، وبادية الظلمات والمتوسط مرة أخرى».

وفي حين كان منيف المواطن العربي الأشمل -كما أسلفت السطور- إذ ولد في الأردن وعاش بالعراق وأقام ببيروت ومصر وتزوج من سورية، فإنه يظل كذلك الروائي العربي الأول بامتياز، بعيداً عن نوبل.. فرواياته مثل صحراء مفتوحة أو كمثل روح طليقة حرة متمردة لا تعترف بالحدود، او هكذا تأتت بلا أماكن محددة بلا عواصم محددة كانت الأماكن فيها رموزا ثقافية، كانت المدن فيها مفاهيم إبداعية أرسى بها فعلاً ثقافيا عربياً بلا جغرافية أو تاريخ محدد من خلال ثوابت أساسية وقناعات راسخة لم تتبدل.

وفي هذا يقول عنه الروائي جمال الغيطاني: «حافظ منيف على نقاء المثقف في زمن شهدنا فيه الأعاجيب...».

ومن هذا المنطلق ارتأينا أن نعاود الذكرى من باب الخلود كلما سنحت الظروف، وإن كان خالداً بإبداعه الذي لا يمحى وإن غيبه النسيان ولا يمحى برغم أنف إرادة الطغيان التي عنفها منيف أشد التعنيف وليس كما رضخ لها المثقف (الكنيف)، إذ جعل منيف من نفسه وسيظل كذلك الى ما شاء الله ضميراً جمعياً لأمته أوليس المثقف ضمير أمته؟ لذا فقد أدى وظيفته على أكمل وجه بهمته العالية التي لم تفتر وقناته التي لم تلن في وجه الخطوب التي ألبت عليه الخصوم، لكنه أكمل دوره مناضلاً ومبدعاً عظيماً لم يجد حرجاً في المزج بين السياسي والأدبي وربما آثر السياسي في كثير من الأحيان، لكنه رأى أن الاستغراق في المؤسسة السياسية ينطوي على خدعة كبرى على حساب القناعات الإبداعية، فقناعات السياسة ومقولاتها لا تكون أمينة وقد رأينا بالتجربة أن هناك فارقاً كبيراً بين الممارسات العقلية والواقع المعاش، لذا فقد آثرت المواجهة -كما يقول على لسانه - عبر فن الرواية هذه الأداة الجملية والممتعة.

وظل منيف حتى وفاته مؤمناً بهذا الدور، فقد عاش حياته فقيراً متشحاً بالنبل مزداناً بالكبرياء حد أنه لم يصدق الكثيرون أنه حقيقي ممتثل الوجود إلا بعد ان رأته العيون بقامته الفارعة عندما تسلم جائزة الرواية العربية، لأنه كان طوال تلك الفترة هارباً من لحظة الانكشاف الفاضح للذات الذي لم ينثن أمام صرامة الغموض ووميض التبدي، الذي سطع كالشمس في رابعة النهار مؤمناً بدوره تجاه قضايا أمته ومتمسكاً بالحلم الذي لم يشهد تحقيقه بعد رحيله عنا الى دار الخلود يوم السبت 24 يناير 2004م بعد معاناة مزمنة مع مرض الفشل الكلوي، بيد أنه أسهم في خلق وعي عربي متفتح يتألم للسواد ويأذن للفرح ويقيم الحداد ولا يخضع للترح.

المنكود قصة كتبها الروائي في بداياته عن خاله.. ثم ما لبث أن التصق الاسم به عن طريق الوراثة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى