قصة قصيرة بعنوان (المد الأحمر)

> «الأيام» منصور نور:

> خرج العم عباد بقاربه الصغير، يجوب البحر في الهزيع الأخير من الليل، مع ابنه بشير.. كان لزفير البحر رائحة عفنة، أشبه بالرائحة النتنة التي تنبعث من الأحشاء المتعفنة لأسماك (الباغة) المحمرة.. أثارت الرائحة حساسية الأنف عند العم عباد وشعر برغبة لحكها، كأن ذبابة أو بعوضة دخلت أنفه.

تعودت المدينة على السهر، ولم يضايقها العطاس، أو الفرقعات التي أطلقها العم عباد ليلتها، هذا حال المدينة وسوسة وقهد، لا نامت عروستها ولا شيخها رقد، منذ أن هجرت الأحلام وسائد الأطفال وانكمشت مساحات اللعب في المدارس، كما هو حال المتنفسات التي اختفت من المدينة، طال السهر ولم تبلغ العلى.. تعالى البنيان واختفت (حافة البينيان)، قصر طول الرغيف، وطال السفر.. استقبل الناس الصباح، تعالت أصوات باعة الجرائد.. ضباع تخطف العصافير وترميها على الشاطئ، العثور على كتاب مُزّق بعد سرقته من مكتبة المدينة.. اختطاف قلم وكسر أحد شقيه، ماء يتجمد في عز الظهيرة ويرحل الحزام الأخضر باحثاً عن خصر مدينة نظيفة.. عاشقة.

انتبه العم عباد إلى تغير لون البحر وقال:

- سمعت عن البحر الأحمر.. الأبيض .. الأسود، وأشاهد اليوم البحر الأخضر.

رد عليه بشير ليخرجه من دهشته:

- الأسماك تناولت القات ليلة أمس، وألقت ما مضغته في البحر فاخضرت مياهه!

سحب العم عباد وابنه شباك الصيد من البحر بعد أن أنهكهما التعب، تبادلا النظرات الشاحبة التي التصقت بوجهيهما المصفرين.. انتشرت في المدينة ظاهرة تسمية المواليد الجدد بـ (الأخضر)، (الخضر)، عاد العم عباد وابنه على القارب الصغير إلى رصيف الميناء القديم، غادر قاربه وهو يحمل في طرف خطافه الطويل سروالاً قصيراً بهت لونه الأبيض من كثرة اتساخه وعفونته.. وجده العم الصياد عالقاً بشباكه عندما جذبها من البحر، وأمام دهشة الأنظار التي ظلت تراقبه، اقترب منها العم عباد الصياد وأشار إلى السروال المتسخ، قائلاً:

- هذا السبب الرئيس في تلوث البحر!

شهقت الوجوه المكفهرة.. وقالت (هذا سروال (.....) عثرنا على جثته تحت أنقاض سفينة الموت، قرب رأس دنافة، نسيت الشهقات أن العم عباد بلغ السبعين من العمر وما زال متصوراً.. متخيلاً أن حماية البحر من التلوث مسؤوليته قبل الآخرين، لأنه مصدر رزقه، ولم ير يوماً في حياته أو يسمع عن (المد الأحمر)، أو يكترث للمد ( الشيوعي) في (كابول) ولم تتجاوب مشاعره مع تضحيات الجيش الأحمر ودفاعه عن مدينة (سان بطرسبورغ).

في قاعة الندوات ناقشت المداخلات ظاهرة (المد الأحمر)، واهتمت برامج الحاسوب الآلي برصد المبالغ المالية، التي خصصت لإعداد الدراسات والبحوث ومكافأة المشاركين، وتكاليف الدعاية والصور الإعلانية وتذاكر السفر وحجوزات الفنادق السياحية.. فيما تهافت الحاضرون للحصول على الحقائب، وشرب الشاي والمرطبات.. مقاطعة الصناعة الدنماركية، وحشو الأفواه بألذ أنواع قطع (الكيك) والكريمات الدسمة الفاخرة، التي لم يتذوقها أطفال الـعـم عـبـاد وجـاره عـياش السيسباني.

في منزل العم عباد قدمت زوجته على مائدة الغداء (المطفاية العدنية) التي يحبها سكان المدينة، ازدادت دهشة زوجها أكثر كيف تلوثت (المطفاية) وصار لونها أخضر.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى