الصورة التشبيهية في قصيدة (ليالي الجائعين) للشاعر عبدالله البردوني

> «الأيام» صالح عقيل بن سالم:

> لقد ظلت الصورة الشعرية مدار اهتمام القدامى والمحدثين، واستأثرت بعنايتهم واهتمامهم، وإن اختلفوا في تحديدها، غير أنها كانت في نظرهم معياراً فنياً مهماً لتقويم الشعر، بل وتمييزه عن النثر.

ونجد في شعر البرودوني عناية كبيرة بالصورة الشعرية؛ إذ جعلها عنصراً مهماً في بث معاناته وإيصال تجربته، فالصورة عنده منتزعة من أحاسيسه ومشاعره، تعبر عن تجربة ناضجة لها تأثيرها على متلقيها.

وبالنظر إلى هذا النمودج (ليالي الجائعين) تتضح معالم الصورة وتداعياتها عند البردوني، إذ يقول:

هذي البيوت الجاثمات إزائي

ليل من الحرمان والأدجاء

من للبيوت الهادمات كأنها

فوق الحياة مقابر الأحياء

تغفو على حلم الرغيف ولم تجد

إلا خيالاً منه في الإغفاء

وتضم أشباح الجياع كأنها

سجن يضم جوانح السجناء

وتغيب في الصمت الكئيب كأنها

كهف وراء الكون والأضواء

خلف الطبيعة والحياة كأنها

شيء وراء طبائع الأشياء

لقد جاء هذا النص مليئاً بالصور الشعرية المعبرة، غير أن الصورة التشبيهية (.. كأن..) كانت أكثر توظيفاً ووروداً، وربما أراد البرودني بهذا التكريس للصورة وامتدادها بنفس غير منقطع، التوكيد على طواعية العمود الخليلي وجعله مواكباً لحركة التغيير والتجديد في هذا العصر.. فنجد في شعر البردوني روح التجديد التي يقرها أنصار الجديد، وهذا ما يميز البردوني عن غيره ويجعله بين اتجاهين قديم وحديث.

وفضلاً عن ذلك فالصورة التشبيهية تؤكد هذا النفس؛ فالمشبه واحد (البيوت) والأداة واحدة (كأن)، وعدد المشبه به (المقابر، السجن، الكهف..) وكان يلحق المشبه به بصور أخرى تعزز معناه (مقابر الأحياء، جوانح السجناء...)، غير أنه لم يجد في هذه الدلالات بغيته، فلجأ أن يختم الصورة (المشبه به) بالتشبيه بالنكرة (شيء)، ليوحي من وراء ذلك بعمق المعاناة التي يتجرعها الشعب في ظل الحكم الإمامي الجاثم.

إن إسقاط الصورة التشبيهية بهذه الدرجة يتناسب والموقف الذي يعيشه الناس، فالحياة أصبخت نكرة مجهولة الهوية، لم يجد لها الشاعر تعريفاً مناسباً إلا بتلك الصورة.

وبعد أن وصل الشاعر بالصورة إلى حالة النكرة نراه يغير من الأداة، بيد أن المعاناة لم تتغير، وهو بذلك يجزئ معاناته بحسب أدواته ليرينا في النهاية تصاعد المعاناة واكتمالها، فقوله:

ترنو إلى الأمل المولي مثلما

يرنو الغريق إلى المغيث النائي

وتلملم الأحلام من صدر الدجا

سوداً كأشباح الدجا السوداء

نجد في هذه الصورة تفشي العاطفة بشكل كبير، فالصور منحدرة من صور الرومانسيين وتجاربهم، إذ نلحظ صراعاً بين الأحلام والواقع.

لقد حاول الشاعر أن يطور صورته ويبني منها صورة تقابلية (الأمل، ترنو، الأحلام) و(الدجا، أشباح، سوداء) ليعبر عن المعاناة وليصل إلى تحريك المشاعر والهم، إذ كان يسعى أن يقيم ثورة من خلال الصورة. ويفاجئنا الشاعر بالعودة إلى الصورة التشبيهية الأولى، كقوله:

وتململت تحت الظلام كأنها

شيخ ينوء بأثقل الأعباء

يبدو لي أن الشاعر قد وجد في هذه الصورة (..كأن..) بغيته، فهي سر قصيدته، وبؤرة معاناته عمقها وطورها، وجعلها خاضعة للتجربة كلما احتاجها أتته لتضيف سراً من أسرار معاناته، فنلمح فيها نوعاً من الحركة، ولكنها تظل تقابلية (تململت، ينوء) و(الظلام، الأعباء).

لقد حاول البردوني أن يستنهض الهمم ويحرك المشاعر والقلوب، وذلك باختياره تلك الصورة وتكريسها وتكرارها، فالقصيدة من بدايتها إلى نهايتها وهي في صراع بين حركية الصورة وتنقلها وجمود الشعب وغفلته، لذلك كان للصورة التقابلية التي أفرزتها الصورة التشبيهية جهد كبير في تحريك تلك الهمم وقيام الثورة على الإمامة وأعوانها.

إن مثل هذا الاستخدام للصورة كما يرى الدكتور نعيم اليافعي في كتابه (تطور الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث ص121) يجعلها متنامية يتسع مدارها بطول تأملنا لها، وتهبنا إشعاعات ورؤى كلما عاودنا قراءتها. وهذا الاستخدام نجده عند البردوني، إذ جعل الصورة التشبيهية صورة متنامية مشعة بالدلالات والرؤى المعبرة عن تجربة عاشها الشاعر- سابقاً- في ظل النظام الإمامي الرجعي. وحسبنا ما وجدناه في هذه الصورة - التي تمثل نموذجاً لشعر البردوني - من دلالات معبرة تدل على تلك المعجزة الشعرية اليمنية، وتضع صاحبها في مصاف الشعراء الكبار في الوطن العربي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى