الصورة الشعرية عند الشاعر أحمد الشامي

> «الأيام» صالح عقيل بن سالم:

> لقد امتلأت حياة الشاعر أحمد الشامي في الغربة بالأحزان والعذاب والسأم، وكان سبب ذلك فراقه الكبير لبلاده الغالية على نفسه، فقد تركت ثلمة في قلبه وأحشائه لا يسدها تعاقب الليل والنهار، فكم عانى من الحرمان والتشرد، وكم قاسى من لوعة الفراق وهو يتجرع كؤوس الصبر والتصبر، حتى استقبح كل شيء في الغربة.

لذلك حاول الشاعر أن يجعل الصورة الشعرية معبرة عن تجربتين، تجربة عاشها قبل الغربة، وأخرى عاشها في الغربة، ليظهر المفارقة بين التجربتين.

والصورة الشعرية وفقاً لذلك تكشف عن رؤية الشامي وموقفه في معالجة قضاياه الذاتية التي لها ارتباط كبيره بالواقع.

أولاً: قبل الغربة : يقول الشامي:

رعى عهود اللقى في عمرنا وسقى

أيام لا نعرف الأحزان والأرقا

أيام كنا نغني العمر قافية

سكرى ونرقصه حباً ولحن لُقى

رعى العهود التي ولّت صدى وله

أهاب والطرف يرنو خاشعاً شرقا

فقلت: من؟قال: صوت قلت: أعرفه

فقال: كيف؟ فقلت الحلم قد صدقا

قال الصبابة؟قلت: القلب كابدها

قال: الهوى؟ قلت: من غيري له عشقا

أنا الذي لليالي الطيش قد خضعت

أيام عمري وبالأوهام قد وثقا

حتى صحا حُمقي حيران مضطربا

لا يستطيع سوى النكران لو نطقا

حاكى الشامي في هذه القصيدة الشاعر العربي القديم الذي ارتحل عن داره لظروف، ربما تكون سياسية أو اقتصادية أو بيئية... فقد استهل قصيدته بصورة تكررت كثيراً في الشعر العربي القديم (رعى عهود.. ) حيث كررها وكانت صورة محورية في القصيدة، بنى عليها جميع صوره الأخرى التي جاءت لتخدمها. وربما دعا الشاعر إلى توظيف الصورة التراثية، وجعلها محوراً لبناء قصيدته حرصه الشديد على عدم مفارقة الماضي وانتهائه، فهو يدعو له بالسقيا والنماء، ويتمنى أن يعود بتلك الصورة التي كان عليها. كما ينهي المقطع من قصيدته بصورة مثيرة للخيال والعاطفة، كقوله:(أنا الذي لليالي الطيش...)، حتى (صحا حمقي).

فالصورة الكلية في هذين البيتين عبارة عن صور جزئية متراكمة، مثل الصورة التشبيهية (ليالي الطيش)، والصورة التجسيمية (خضعت أيام عمري)، (بالأوهام قد وثقا)، (صحا حمقي)، (لا يستطيع سوى النكران لو نطقا) فكل هذه الصور توحي بالحسرة والندامة على ما فات الشاعر من عمره وضاع. وبالرغم من أن أكثر الصور التي وظفها الشاعر تراثية، غير أنه حمّلها من جيشان عاطفته وجعلها قادرة على التعبير عن تجربته. ثانياً: في الغربة: يقول الشامي في قصيدة (لا تسلني) :

لا تسلْ، كيف ابتلانا الدهر بالبعد طويلا؟

كيف أشقانا ظلوماً؟

كيف أظمأنا بخيلاً؟

كيف.. لم يبق إلى اللقيا سبيلا

كيف لم يرحم جراحاً؟

كيف لم يسعد غليلاً.

لا تسلني واسأل الأوراق منها.. وإليها

هي تحكي ما تعاني، وأنا قد ذبت فيها

حاول الشاعر أن يوسع صورة (الدهر) فقد استمر نفسها إلى السطر السادس، كما حاول أن يجعل أسلوب الاستفهام (كيف) مركز حضور وتنوع للصورة، فهي تثير التعجب والشفقة والترحم لحال الشاعر الذي أصبح يعاني من قسوة الدهر وويلاته، فقد رماه بعيداً عن وطنه وأهله. ثم يأتي الشاعر بصورة أخرى تخرجه من محنته وضيقه، (لا تسلني واسأل الأوراق) وذلك ليؤكد أن تلك الجراحات والابتلاءات التي أبعدته عن وطنه لا تزيده إلا حباً وتمسكاً بوطنه. فالصورة توحي بالترابط والتلاحم القوي بين الشاعر وبلاده. كما نلحظ أن الشاعر عندما عبر عن حياة الماضي استخدم الصورة التراثية في الوزن التقليدي العمودي، واتى بالصورة التجديدية في شعر التفعيلة، وكأنه يوازن بين حالين، حياة الماضي (الصورة التراثية) وحياة الحاضر (الصورة التجديدية) فالتغيير الذي حدث في حياته غيّر في اتجاهه وموقفه من العمود، لا لإضرابه عن العمود، ولكن لتغير الحال (الغربة). وفي ذلك دلالة خفية على إيصال التجربة بطرق عديدة وبديعة. وبذلك عبرت الصور عن جانبين من حياة الشاعر، جانب سعيد عاشه في الماضي، وآخر مؤلم عاشه في الغربة، وكانت الصورة وفقاً لذلك التقسيم خاضعة للتجربة وموفقة في التعبير عنها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى