الواقع والرمز في «الرأس» لياسر عبد الباقي

> «الأيام» د. سعودي علي عبيد:

> ومقابل حالة عاطفة الأمومة الخادعة عند المرأة العجوز، نجد حالة عاطفة صادقة عند الولد، حيث أخذت هذه العاطفة بالتعاظم عنده لمدة عشرين عاماً حتى تهاوت في ذلك اليوم الذي (تدحرج فيه رأسه في الغرفة مبعثراً العصيدة).

وإلى جانب حالتي العاطفة الخادعة عند المرأة، والعاطفة الصادقة عند الولد نجد أيضاً حالة إنسانية ثالثة، تتمثل في حالة الحقد الكامنة عند المرأة تجاه الولد، باعتباره عدوها الحقيقي ومشروع انتقامها المؤجل والمؤكد في الوقت ذاته.

وكما أبدع هناك، فقد أبدع القاص ياسر عبدالباقي هنا كذلك، وذلك أولاً عندما جعل المرأة تحمل في داخلها أحاسيس ومشاعر إنسانية متضادة ومتصادمة بقوة لمدة تقترب من العشرين عاماً، حيث كانت تحمل عاطفتين متناقضتين، هما عاطفة الأمومة نحو ذلك الولد، وإن كانت خادعة، وعاطفة الكراهية والحقد والانتقام نحو الولد ذاته، وثانياً عندما جعل القاص شخصيتي القصة (المرأة والولد) يعيشان تحت سقف واحد لمدة عشرين عاماً، وهما يحملان مشاعر إنسانية متصادمة، (مشاعر الكراهية والانتقام عند المرأة نحو الولد مقابل مشاعر عاطفة الأمومة الصادقة عند الولد تجاه تلك المرأة)، حتى أتى ذلك اليوم، عندما أخبرته بالحقيقة المؤلمة والقاتلة.

الثالث: حيث تجلى هذا المشهد في الحوار الذي تم بين (الولد الذي صار شاباً) يناهز العشرين عاماً، وتلك المرأة العجوز التي مازالت حتى تلك اللحظة التي بدأ بها الحوار بينهما، بمثابة الأم. والزمن في هذا المشهد يتفرع إلى نوعين:

الأول: هو ذلك الزمن المكشوف لنا، والذي يبدو لنا طويلاً إلى حد ما، أي أنه ذلك الزمن الذي تستغرقه قصة (الرأس) كاملة، حيث إن القصة في شكلها العام تبدأ من حين بدأ (الولد الذي صار شاباً) بسؤال العجوز عن هويته الحقيقية، وتنتهي بقطع رأس الشاب، وتدحرجه في الغرفة مبعثراً العصيدة، أو بمعنى آخر هو الزمن الذي استغرقة الشاب في رواية حكايته لنا.

الثاني: هو ذلك الزمن ذاته، الذي يبدأ بسؤال الشاب العجوز عن هويته، وينتهي بقطع رأسه من قبل العجوز، ولكنه يختلف عن الأول، باعتبار أن الزمن الثاني، هو الزمن الحقيقي للقصة، أو هو الزمن الذي استغرقته فعلاً مجريات القصة في الواقع.

ومن المؤكد بأن مجريات أحداث القصة، لم تكن في الواقع سوى دقائق معدودات.

وكما هي الحال في المشهدين الأول والثاني، فقد جسد لنا القاص في هذا المشهد حالتين إنسانيتين، توافرتا عند شخصيتي هذا العمل الإبداعي لقصة «الرأس»: الحالة الأولى، هي (حب المعرفة) عند الشاب لاكتشاف هويته الحقيقية، وعلاقته بتلك العجوز، ومن المؤكد بأن حب (المعرفة) تلك، لم تبرز فجأة، ولكنها كانت ملازمة له منذ أن وعى الحياة، فأراد أن يعرف أباه وأمه، إلا أن العجوز كانت تؤجل الإجابة عن سؤاله ذاك، حتى يحين الأوان من جهة نظرها، أو بمعنى أصح، حتى تحدد هي زمن الإجابة.

وعندما عاود سؤاله في ذلك اليوم المشؤوم، وألح عليها بقوة بضرورة سماع إجابتها عن سؤاله، بهدف إشباع (حب المعرفة) الضاغطة عليه، فإنه لم يكن يدرك أنه سائق نفسه نحو حتفها بواسطة ذلك السيف الطويل القاطع، وأن من يعتقد أنها أمه، هي التي ستجز رأسه .. ولذا يمكننا القول بأن (حب المعرفة) المتوافرة عند الشباب، قد قادته إلى نهايته المأساوية.

وفي الجانب المقابل، فقد كانت توجد حالة (انتقام) مؤجلة عند المرأة العجوز وهي حالة لم تبرز فجأة، بل كانت ملازمة للعجوز منذ أخذت الطفل من النهر، قبل نحو عشرين عاماً، وكانت هذه الحالة تكبر وتتعاظم عند المرأة مثل كرة الثلج المتدحرجة.

وقمة الإبداع عند القاص ياسر عبدالباقي، تكمن في اللوحة الفنية المتألقة التي رسمها لنا في هذا المشهد، بحيث جعل الحالتين المذكورتين (حب المعرفة عند الشاب ودافع الانتقام عند العجوز) تستحثان بعضهما، الوحدة نحو الأخرى بشكل قوي، فالأسئلة المتكررة من الشاب لمعرفة هويته (أصلة وفصله) أي حب المعرفة عنده ، كانت عاملاً أساسياً وقوياً لتنامي نزعة الانتقام عند العجوز، والعكس صحيح حيث إن نزعة الانتقام الكامنة عند العجوز، كانت هي الأخرى عاملاً أساسياً وقوياً في خلق وتنامي حب المعرفة عند الشاب، وذلك من خلال تحفيزه الدائم على التساؤل والاستفسار المستمر عن هويته، باستخدامها أسلوب التأجيل المستمر للإجابة عن سؤاله ذاك.

ومع أن نزعتي (الانتقام) و(حب المعرفة) مختلفتان، بل وتتعاكسان شكلاً ومضموناً، كما أنهما تتقاطعان في الوسائل المستخدمة والأهداف المتوخاة، إلا أن القاص استطاع أن يجعلهما تلتقيان عند نقطة واحدة، وهي قطع رأس الشخصية الرئيسة الأولى لقصة «الرأس» بما يعني نهاية حياة الشاب بتلك الطريقة المأساوية، وهذا له علاقة بحسن استخدام الأدوات الفنية بامتياز من القاص ياسر عبدالباقي.

وقمة الإبداع والإمتاع عند القاص، في قصته هذه، هي اختياره الموفق للنهاية الجميلة التي اختتم بها قصة «الرأس»، أي اختياره الحبكة الفنية لخاتمة قصته، وذلك عندما يقول الشاب في نهاية القصة: (توسلتُ إليها بعيني أن تبقيني حياً .. وجهها كان متجهماً، حدقتْ بي للحظات بقسوة، ثم .. هوى السيف للأسفل وتدحرج رأسي في الغرفة مبعثراً العصيدة).

فكيف يمكن أن يحدث ذلك في الواقع؟؟ إنه الكابوس الذي أطبق على الشباب، عندما مرَّ بذلك الحلم المزعج الذي نطلق عليه «الكابوس»، ولكنه كابوس من نوع خاص وفريد، ذلك أن الخصوصية والفرادة تكمنان في أن القاص قد جعل الشاب يرى نهايته بنفسه، وعلى تلك الطريقة الفظيعة التي تمت بها، مما يعني أن القاص ياسر عبدالباقي، قد جعل من هذا الكابوس الذي تعرض له الشاب( قطع رأسه من قبل العجوز ، ومشاهدته لنهايته) رمزاً لظاهرة الثأر في جانبها القاسي والمؤلم والفظيع، أما واقع الظاهرة، فإننا نشاهده ونقرأ عنه ونسمع به باستمرار. لذلك فإننا لم نحد عن جادة الصواب عندما قلنا في مقدمة موضوعنا هذا، بأن للقاص ياسر عبدالباقي طريقته الخاصة للكشف وسبر غور هذه الظاهرة، تعفينا عن مطالعة العديد من الدراسات والأبحاث التي تناولت الظاهرة نفسها. وفيما يخص أسلوب السرد المستخدم في قصة «الرأس»، فقد استخدم القاص هنا أسلوبين لسرد قصته علينا، أو في توصيلها إلى المتلقى، الأول بواسطة سرد أو حكي القصة من الشخصية الرئيسة الأولى، وهو الشاب (أخفاك والدك في سلة من القش، ورماك في النهر، هكذا بدأت تحدثني أمي،.... الخ)، أما الأسلوب الآخر، فهو عملية الحوار بين الشاب والعجوز الذي امتد من بداية القصة حتى نهايتها، أي أن الأسلوبين ظلا متلازمين على طول امتداد القصة، وبالطبع مع الحفاظ على وحدتهما وتناغمهما وانسجامهما.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى