لماذا خسرت أميركا الاحتضان الدولي

> كلوفيس مقصود:

> السؤال الكبير اليوم في الذكرى الخامسة لأحداث 11 ايلول هو: ماذا حصل لحالة الاحتضان الدولي الدافئ للولايات المتحدة والذي اختزلته افتتاحية "لوموند" الفرنسية بقولها: "كلنا اليوم اميركيون"؟ ثم لماذا تهاوى ومن ثم تبعثر الرصيد السياسي والمساندة المعنوية والتضامن الدولي الشامل لادارة الرئيس جورج بوش، وداخليا، مع التأييد الكامل لقيادته والدعم غير المسبوق لاعلانه الحرب على الارهاب، كما جاء هذان الاجماع الدولي والتأييد الشعبي يمحضان رئاسة شرعية كان مطعوناً فيها بعد الانتخابات الرئاسية عام 2000 التي نال فيها الرئيس بوش اصواتا اقل من خصمه بنحو نصف مليون؟

الجواب يكمن في كلمة واحدة: العراق. كيف؟

كان اول اجراء اخذته الامم المتحدة هو اصدار قرارات عن مجلس الامن والجمعية العمومية بالاجماع تدين العملية الارهابية وتجيز اي اجراءات عقابية تتخذها الولايات المتحدة والتحالف الدولي ضد افغانستان لكون حكومة "طالبان" كانت حاضنة تنظيم "القاعدة"، تحت البند 51 الذي يجيز اجراءات "دفاعية عن النفس". وهذا بدوره فسر القرارات التي وافق عليها المجتمع الدولي وبالتالي اكتسبت الغطاء القانوني. ورغم ان الرئيس بوش تعامل مع هذين الاجماع الدولي والاحتضان الدافىء العالمي لمعاناة الشعب الاميركي والصدمة القاسية التي اختبرها كأنهما ترخيص ترجمه بمعادلة "إمّا معنا او مع الارهاب"، فكان ذلك اجهاضا لحق المساءلة او ابداء آراء متنوعة في السياسات الدولية او القوانين مما قد يؤول الى انتهاك الحقوق الدستورية والمدنية للمواطنين الاميركيين ولاسيما العرب والمسلمين منهم. وكانت الأجواء العامة شديدة التوتر وكان الخوف سائدا، وصممت الادارة على ان تعتمد ديبلوماسية الاملاء بدلا من ديبلوماسية الإقناع. ورغم مرحلة الرضوخ الطوعي وغير الطوعي كان الانطباع السائد ان هذا الرضوخ لا بد من ان يكون موقتاً، وبالتالي حصل تأجيل في عملية المساءلة او حتى في ادخال تعديلات على مشاريع قوانين جائرة من شأنها تهديد الكثير من مقومات وركائز مؤسسات ديموقراطية وحقوق دستورية لم يتم تحديها حتى في الحروب التي شاركت الولايات المتحدة فيها.

كانت العملية الارهابية التي قام بها تنظيم "القاعدة" والتي شارك فيها مواطنون عرب فرصة وظفتها اسرائيل وانصارها لحملة ديبلوماسية تجعل من اسرائيل وتجاربها في "مكافحة الإرهاب" شريكا اصغر للولايات المتحدة في حربها على الارهاب العالمي، واندفعت الآلة الاعلامية في تشويه صورة الاسلام والايحاء ان الحضارة الاسلامية تنطوي على بُعد عنفي، مما ادى الى كثير من الاعتداءات على بعض الجوامع الى درجة ان الرئيس بوش اضطر الى زيارة الجامع في العاصمة الاميركية. ورغم ان هذه الزيارة الاولى من نوعها ساهمت الى حد ما في تنفيس الاحتقان النامي ضد العرب والاسلام، الا ان المتربصين بالعرب والاسلام في مجموعات انصار اسرائيل تمكنوا من تعميم سؤال انطوى على تحريض، واعتبر ان العرب والمسلمين "يكرهون" كملوّن لثقافتهم، مما دفع الرئيس بوش وعدداً من النخب السياسية والاعلامية الى تكرار السؤال "لماذا يكرهنا العرب والمسلمون؟". وكان الرد في ذلك الحين ولا يزال ان العرب والمسلمين لا يكرهون، الا انهم غاضبون، ثم كان التركيز على الفرق الجوهري بين الغضب والكره - بعد التسليم بأن من يكرهون هم في الوطن العربي والعالم الاسلامي مثلهم في كل المجتمعات، فئة ضئيلة وشاذة - واكدنا ان الكره هو التدمير لاستباق اي حوار، اضافة الى كون الكره هو اقتناع راسخ ومَرَضي بعدمية الجدوى وعبثية اي حوار. اما الغضب فهو استدراج مقصود الى الحوار ودعوة ملحاحة الى المناقشة لا المناكفة وللتفاوض بغية الاقناع واستعداد للاقتناع. كما ان الغضب بسعيه الى استقامة علاقة مفقودة او ضعيفة يعمل على ازالة اسبابه.

من هذا المنطلق قامت التجمعات العربية والاسلامية الاميركية بالتصدي مدعومة بمنظمات حقوق الانسان وساهمت في كبح محاولات الاستباحة لحقوق المواطنين العرب والمسلمين، في مواجهة تصميم اليمين المتصهين على تشويه صورة الحضارة الاسلامية، مما دفع العديد من المعاهد والجامعات الى ادخال الدراسات العربية والاسلامية في مناهج التعليم. ولا بد من الاشارة الى الجهود الجبارة التي قام بها الراحلان ادوارد سعيد وهشام شرابي، وهالة سلام وسميح فرسوم وغيرهم من الناشطين والاعلاميين الذين لا يزالون في صميم المواجهة مع جميع المتربصين للحقوق العربية وللإضرار بصورة الاسلام.

***

عندما طرحنا السؤال: كيف حصل التفريط بالتأييد والتضامن والاحتضان العالمي للولايات المتحدة في اعقاب احداث 11 ايلول 2001؟ كانت الاجابة ان السبب هو العراق. اذاً كيف؟

عشية الذكرى الخامسة لأحداث 11 ايلول وفاجعة العملية الارهابية، قام فريق مستشاري البيت الابيض قبيل انتخابات الكونغرس، بمجلسيه الشيوخ والنواب، بتنظيم سلسلة خطب للرئيس بوش امام جمهور من قدامى المحاربين او الاكاديميات للمؤسسات العسكرية، مما يضمن تجاوبا اضطراريا يمكن تسويقه كدليل على استرجاع الرئيس شعبيته التي تدنت في شكل متسارع نتيجة فشل عملية غزو العراق وثبوت كونها انحرفت عن الحرب الحقيقية المشروعة في افغانستان، ثم فشل الادارة الحالية في معالجة نتائج اعاصير كاترينا وغيرها من مسببات انخفاض مستوى التأييد لسياسات الادارة الحالية. وكان وضوح تدهور صدقية الرئيس بوش حتى في اوساط حزبه دافعا للمرشحين الجمهوريين الى عدم الالتصاق به، حتى وصل التنصل بعض الاحيان الى المجاهرة بالاستقلال عنه. من هذا المنظور، وبعد مداولات كثيفة بين مستشاريه، وخاصة كارل روف، تقرر ان يقوم الفريق باعداد صيغة توظف الذكرى الخامسة لعملية 11 ايلول بإلقاء الرئيس الخطب الاربع مع التركيز على تخويف الاميركيين من اخطار الارهاب وعلى كونه صار "خبيرا" في مكافحته مما ادى الى تعميم مقولات مثل "الاسلام الفاشستي" وتشبيه بن لادن بهتلر، وكل من يعارض هذا التركيز على الخطر الداهم للارهاب ينقص في وطنيته وجهله، وكل مساءلة سياسية او قانونية للقوانين التي يفرضها بمثابة "ميوعة في التزام المعارضين مكافحة الارهاب"، بمعنى آخر اراد الرئيس بوش ومعاونوه استيلاد الخطاب الذي ساد فور الصدمة التي احدثتها العملية الارهابية في 11 ايلول 2001.

واعتقد فريق المستشارين وجماعة المحافظين الجدد وشلة نائب الرئيس ديك تشيني ان هذه الحملة الكثيفة تمكنه من استعادة المبادرة في تعبئة الراي العام واسترجاع المترددين والمتمردين في الحزب الجمهوري الى حظيرة الانضباط بما يمليه ويرسمه الرئيس بوش. الى ان جاء الفصلان الاولان في تقرير شامل لوكالة المخابرات المركزية CIA ليردعا هذا التمادي في تحريف الانظار عن اكاذيب ذرائع، وادعاءات ادارة بوش، لتبرير الغزو على العراق، ورغم ان رئيس لجنة المخابرات السناتور روبرتس (الجمهوري) سعى بدأب الى تأجيل نشر هذين الفصلين في تقرير الـ ـCIA منذ 2005 انضم عضوان من الحزب الجمهوري في اللجنة هما السناتور سنو وهيغل الى الديموقراطيين في اللجنة، وكان ان نشر الفصلان امس السبت، مما سوف يعطل مشروع فريق البيت الابيض لتعويم "مكافحة الارهاب" موضوعا وحيداً في انتخابات تشرين الثاني المقبل.ونتيجة لنشر الفصلين الاول والثاني سقط العديد من ركائز الحملة التي اعتمدها ولا يزال فريق الرئاسة، ومهدت الطريق امام محاسبة جادة عن دوافع الغزو على العراق.

كان قرار المحكمة العليا في قضية حمدان - رامسفيلد عاملاً ادى الى اعتراف الرئيس علناً بوجود سجون سرية بناء على تعليماته في عدد من الدول، مما ادى الى احراج العديد من الدول الاوروبية التي تصر على معرفة من استضاف هذه السجون اللاشرعية ولماذا أخفت الحكومة المعنية واقع وجودها. كما ادى الى اضطراره لاستعجال طرح مشروع قانون يلبي شروط المحكمة العليا كما يريد هو. ألا ان اعضاء في مجلس الشيوخ من حزبه، وخاصة ماكين ووارنر، يعارضون بعض بنود مشروعه، اضافة الى ان تصميمه على التحايل على قرار المحكمة ادى الى استياء عارم في الجسم القضائي، مما ساهم في التشكيك بنياته.

وعندما قال الناطق باسم الرئيس ان مضامين تقرير لجنة مخابرات مجلس الشيوخ هي "مجرد اجترار لمقولات قديمة مر عليها الزمن "ازداد غضب معارضي غزو العراق، كما انضم اليهم الكثير من اعضاء الحزب الجمهوري. واعتبر هذا الاستهتار بالحقائق الدامغة في التقرير تعبيرا عن عدم احترام الفصل بين السلطات الذي يمارسه البيت الابيض منذ خمس سنوات.

كما تتزامن هذه الذكرى الخامسة لـ11 ايلول مع تفاقم الاوضاع في افغانستان وبداية مظاهر فشل الحكم المدعوم اميركيا فيها، لكون ادارة بوش في تركيزها على حربها غير الشرعية على العراق، اضافة الى افشالها مشروع "الشرق الاوسط الجديد" حرفت الحرب الحقيقية على الارهاب، خضوعا الى اولويات ا المحافظين الجدد الذي اخترقوا اجهزة صناعة القرار خدمة لاهداف المشروع الاسرائيلي في المنطقة باستهداف تفكيك الامة العربية ومن ثم تفتيت مجتمعاتها وضمان غطاء لعدوانها ومحاولات الهيمنة على مصائرها.

بعد احداث 11 ايلول نشأ ما سميناه سابقا الثنائية الخطرة: الارهاب - مكافحة الارهاب، مما ازال الفضاء الرمادي المطلوب لفضح املاءات واكاذيب المحافظين الجدد واحتضانهم العلني للمشروع الصهيوني ولمباغتات الشبكات الارهابية المستنزفة لدماء المدنيين الأبرياء وحياتهم ومحاولاتهم الدورية لتشويه ثقافة المقاومة الشرعية والحضارات الاصيلة للعرب والمسلمين.

الدرس لنا في هذه المناسبة ان نتحرر كلنا من الانبهار بسطوة الاملاءات والانصياع لها، وان نعمل لتجفيف مصادر الارهاب من خلال التزام جاد لمقتضيات التنمية والعدالة للانسان العربي، ووحدة جادة للصف والموقف العربيين، وبالتالي اتخاذ الاجراءات اللازمة لعودة الحالة الرمادية التي تتيح الحوار المجدي والفاعل، كي نساهم في هندسة العالم بما يلغي الثنائية الخطرة ويعزز الديموقراطية عالميا وداخل الوطن العربي الكبير.

11 ايلول يجب ألا تتحول تداعياته حالة دائمة، فهذا يكون تعريفاً بجاهلية جديدة.

عن الزميلة «الشرق الأوسط» اللندنية

10 سبتمبر 2006

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى