الآن، الآن: مبادرة عربية قيادية !

> غسان تويني:

> هل كنت تعرف، أيها القارئ العادي، ان سيادة الأمين العام للجامعة العربية، الأستاذ عمرو موسى، قد رفع الى مجلس الأمن، في تاريخ 16 آب/ أغسطس مذكرة رسمية (إنما من النوع الذي تسميه الأمم المتحدة "لا - ورقة"!... وربما لذلك لم يعرف بها، على حد علمنا، الرأي العام العربي، هذا اذا كان الحكام الذين يفترض في الأمين العام أن يكون قد تكلّم باسمهم قد عرفوا وتالياً سيتحرّكون...).

نعلّق هذه الأهمية على "لا - ورقة" الأمين العام لأنه بتقديمها الى مجلس الأمن، رافعاً بموجبها مجمل قضية الشرق الأوسط الى أرفع هيئة معنية، بل مسؤولة عن الحرب والسلام في العالم، وذلك تنفيذاً للتهديد الذي كان قد أطلقه - في لحظة غضب قاربت اليأس - قبيل توجهه الى نيويورك لدعم شكوى لبنان باسم المجموعة العربية... فها هو ينفّذ تهديده، انما بكثير من الخفر وربما بشكل لا ينمّ عن كثير اقتناع بأن مبادرته ستؤخذ جدياّ، وترتّب على الأمر النتائج العملية التي طالب بها.

****
وبعد، لماذا نعلّق على "لا - ورقة"، كل هذه الأهمية؟

لأن القرار 1701 الذي أدى الى وقف العمليات العسكرية في الحرب الاسرائيلية على لبنان ومكّن الأمم المتحدة من تكوين "قوة لحفظ السلام" لا سابقة لها، ثم ادى الى فك حصار كان سيخنق لبنان على نحوٍ قد يؤدي الى تجدد الحرب قبل "وقف اطلاق النار" (وفق التعابير التي ابتُكرت!)...

نقول: لأن قرار مجلس الأمن هذا لم يمنع استمرار قرع طبول الحرب، بل استمرار الحروب المشتعلة في الشرق العربي والمتصاعدة نيرانها واعداد الضحايا، من فلسطين الى العراق، مروراً بجبهات "الارهاب" المفتوحة في الاردن وسواه، وصولاً الى افغانستان من جديد، فضلاً عن حروب الشائعات حول هجوم يُعدّون له على سوريا، وربما ايران، وفي تشرين الأول/ أكتوبر بالذات... بينما تتكاثر أحاديث صنع اميركا "الشرق الأوسط الجديد" الذي تتسرّب خرائطه، كأنما للتهويل أو التشويق!

وهي حالة تفرض على العرب وجامعتهم وأمينها العام التوقف ولو للحظة بواقعية تاريخية، متذكرين ان اعادة رسم الخرائط مسألة تحصل نتيجة كل حرب "عظمى"... هكذا اعيد رسم خرائط اوروبا الشرقية وبعض آسيا الغربية بعد انهيار الامبراطورية السوفياتية، نتيجة الحرب الباردة (ولو باردة)، تماماً كما كان قد أعيد رسم خرائط اوروبا الشرقية اياها والشرق الأوسط نتيجة انهيار الامبراطورية العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى عام 1914 - 1918 ..

والتحدي الذي يواجه العرب اليوم هو ان يوقفوا عملية استقالتهم من جغرافية هذا الشرق الذي هو شرقهم، بعدما استقالوا من تاريخه وتركوه فريسة صراع بين الطموحات الامبريالية المستعادة الحنين، بين عثمانيين جدد وفرس مجددين دورهم في زي ثورة عالمية، معلنة نهائية، فضلاً عن الطموحات الصهيونية التي ترفض ان تأسر حلمها الديني - العرقي بـ"ارتز اسرائيل" تمتد من النيل الى الفرات في كيان ذي حدود دولية معلنة نهائية!!!

****
ماذا يمكن العرب ان يفعلوا بعدما تقهقروا الى حد التحوّل حقاً الى أنظمة "حكم كلامي"، تتكلم عن مشاريع تظنّها تحققت لمجرّد انها أعلنتها بالكلام ولم تطلقها بديناميكية العمل الفعّال؟

يمكن العرب ان يتّعظوا بما تحقق حول لبنان، نتيجة الحرب الاسرائيلية عليه:

اجتماع جيوش من دولٍ بالكاد كانت قد توحّدت سياساتها الخارجية والدفاعية، فاذا بها ترسل، اضافة الى الجيوش، أساطيلها التي لم يكن قد سبق لها ان تحرّكت معاً والى بحرٍ متوسط ليس لبعضها كألمانيا على ضفافه ميناء.

الى حد انه قيل ان "الأزمة - المأساة" اللبنانية وحّدت اوروبا التي لم تكن وحدتها الدفاعية قد تحققت بعد، بإشعار الأوروبا هذه انها، وقد تجاوزت اخطار حروبها الداخلية، صار الشرق الأوسط واية حرب فيه هما مصدر الأخطار التي يمكن ان تهدد أمنها وسلامتها... وبديهي لمن يراقب السياسات الدولية ان يدرك ان هذه لا تتحرك كجمعيات خيرية، ولا حتى كهياكل عقائدية، بل يحرّكها مصير بلد صغير كلبنان في احدى حالتين: اذا كان يمثل بالنسبة اليها مصلحة أكبر من حجمه، أو صار يشكل خطراً أكبر من حجمه كذلك.

واذا كان لبنان قد فرض على اوروبا التحرّك متوحّدة من أجل انقاذ سلامه، لأن في ذلك انقاذاً للأمن والسلام الأوروبيين فأحرى أن يفرض مصير الشرق العربي ككل مثل هذا التحرّك لا على أوروبا وحدها، بل على العالم بأجمعه لأنه قد يصير منطلق حربٍ عالمية جديدة، ونووية... فأرخص لأوروبا، ولو عاندت أميركا، أن تنكبّ على معالجة أزمة هذا الشرق واستباق اعادة رسم خرائطه على نحوٍ يزيد الأخطار ولا ينقصها.

****
والذهاب بالقضية ككل نطرحه على مجلس الأمن، ولو من "لا - ورقة" الأمين العام للجامعة، فيه فائدة أخرى: انه ينقذنا من الوقوع في شرك مؤتمر دولي تعلن الروسيا اقتراح الدعوة اليه، وهي تعلم ان اميركا ستعارض لأن في ذلك انتقاصاً من أحاديتها في قيادة "الحرب على الارهاب العالمي"، ثم اعادة تجميع حكام هذه الحرب في زي خريطة ستكون ولا ريب "خريطة طريق" الى سلسلة حروب جديدة لا يخرج منها العرب إلا وقد تحوّلوا الى فتات دول وبقايا شعوب.

فهل هذا ما يريده اللاعبون منا بالنار، سحرة الجهالات العقائدية الذين يستدرجون الحروب الى ديارهم بعقلية "ديبلوماسية المبازرة" بين الكبار، وكأنهم لم يتعلموا بعد مما أصابهم وأصابنا من محاولة الصغار لعب ورقة دولة عظمى ضد الأخرى، فتتفاهم هذه وتلك على قلب السحر على السحرة الجهّال؟!!

... كما حصل مرات، ولم يتعلموا، ولا هم يفقهون.

في مجلس الأمن يمكننا على الأقل كسر طوق الثنائية عبر "عالمية" التمثيل المتعدد الطرف، مما يفسح لديبلوماسية عربية ذكية في مجال الإفادة من محالفات ربما تشاطرنا حرصنا على عروبة شرقنا وصفاء اسلاميته. فلنحاول بغير الاكتفاء بالكلام وديبلوماسية... "اللا - ورقات" التي يسهل نسيانها بل تمزيقها قبل اجتيازها الكواليس.

وما دمنا قد هوّل بعضنا على البعض الآخر بالدعوة الى قمة تجمع الملوك والرؤساء، ولا تزال مجهولة جدول الأعمال ومشاريع القرارات، فلماذا لا يدعو الأمين العام للجامعة الى هذه القمة جدياً وينحصر جدول أعمالها في أمرين: أولاً الموافقة على تحويل "لا - ورقة" 16 آب الى ورقة رسمية تلزم جميع الدول العربية؛ وثانياً دعوة مجلس الأمن على مستوى رفيع والذهاب اليه بأرفع تمثيل ممكن وطرح قضية الشرق العربي، عملانياً وليس بالخطابة الفارغة؟ وبما يلزم دول المجلس الاختيار المسؤول بين الحرب والسلام؟

عن الزميلة «النهار» اللبنانية 11 سبتمبر 2006

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى