العربية صورة وجودنا (2-2)

> «الأيام» عبده يحيى الدباني:

> ومن الطريف أن يذهب مصطفى صادق الرافعي، في سبيل تقرير حقيقة أن اللغة هي النسب الحقيقي للعاطفة والفكر، إلى أن أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتهم، فنشأ منهم ناشئ على لغة، ونشأ الثاني على أخرى والثالث على لغة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء.

وماذلت لغة شعب إلا ذل ومن هنا يأتيه الأجنبي المستعمر فيفرض عليه لغته فرضاً مما يؤدي إلى أن تغدو لغة الشعب القومية مسجونة في لغة المستعمر الأجنبي ، ومن ثم الحكم على ماضي الشعب بالقتل من خلال محوه ونسيانه، ثم وضع مستقبل هذا الشعب البائس في الأغلال التي يصنعها له هذا المستعمر حتى يصير خانعاً ذليلاً تابعاً.

ولعل الكاتب قد قال ما قال في ظل نفوذ الاستعمار الأجنبي القديم، فما الذي كان سيقوله لو شهد اليوم معنا هذا الغزو الثقافي الموجه نحو لغتنا وديننا وأدبنا وثقافتنا وهويتنا في ظل تكنولوجيا الاتصالات الحديثة والقنوات الفضائية؟ لا شك أنه سيكون أكثر تحذيراً وأعلى صرخة!!

ويمضي الكاتب محللاً ومدللاً يدق ناقوس الخطر، الذي يحدق بلغته وآدابها مشيراً إلى ظاهرة يعاني منها الوطن الإسلامي كثيراً ألا وهي التعصب للغات الأجنبية على حساب اللغة القومية الأم، فلا بأس في تعلم اللغات الأجنبية وتعليمها على أن يخدما حياة اللغة الأم وآدابها وحياة المجتمع وبقاء هويته وخصوصيته الثقافية والاجتماعية. يقول الرافعي في معرض حديثه عن هذه القضية:«والذين يتعلقون اللغات الأجنبية ينزعون إلى أهلها بطبيعة هذا التعلق، إن لم تكن عصبيتهم للغتهم قوية مستحكمة من قبل الدين أو القومية، فتراهم إذا وهنت فيهم هذه العصبية يخجلون من قوميتهم ويتبرؤون من سلفهم، وينسلخون من تاريخهم وتقوم في أنفسهم الكراهية للغتهم وآداب لغتهم ولقومهم ولأشياء قومهم فلا يستطيع وطنهم أن يوحي إليهم أسرار روحه، إذ لا يوافق منهم استجابة في الطبيعة» على أن (العصبية) عند الكاتب لا تعني (التعصب) بما فيه من افتعال وشطط. ولا ريب أن لدينا في البلاد العربية الكثير من هؤلاء الذين وصفهم الرافعي في كلماته السابقة.

هكذا يقرر الكاتب بحصافة أن أثر اللغة الأجنبية في الأخلاق القومية مثل أثر الجو الأجنبي في الجسم الذي انتقل إليه وأقام فيه، وبوجود الحصانة اللغوية والثقافية والدينية لدى الشعب، وبقوة عصبيته وعزة لغته، يستطيع أن يجعل من كل ماهو أجنبي طوعاً له وعوناً، بل يصبح كل شيء أجنبي في هذا المستوى من الوعي قد خضع لقوة قاهرة غالبة هي قوة الإيمان بالمجد الوطني القومي، ومتى أمسك الشعب بزمام أموره وكان هو الأول بجدارة وحق، فكل قوى الوجود لا تجعل بعده شيئاً إلا أنه الثاني! رحم الله تعالى الرافعي فقد دأب على أن يرفع من شأن دينه ولغته وأدبه، ووفقنا في السير على هذا السبيل.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى