نضوب النفط فى اليمن .. الآثار والتداعيات

> خالد أحمد حشمت:

> يراهن العديد من القوى السياسية في اليمن على مستقبل علاقة اليمن بدول مجلس التعاون الخليجي، ولاسيما المملكة العربية السعودية، وذلك بالنظر إلى خصوصية تلك العلاقة التي شهدت في السنوات العشر الماضية نقلة نوعية باتت تبشر بمزيد من الاقتراب والتكامل، وصولا للهدف المنشود، وهو التئام اليمن - الذي وصفه الملك عبد الله خادم الحرمين الشريفين بأنه أصل بلاد العرب - بشكل كامل في مجلس التعاون الخليجي. إلا أن عملية التقارب يشوبها البطء الشديد، إذ يشترط معظم أعضاء المجلس أن يصبح اليمن مؤهلا اقتصاديا للانضمام، وذلك حتى لاتؤدي عملية الاندماج - من وجهة نظر دول الخليج - إلى حدوث اختلال في التوازن السياسي والاقتصادي والاجتماعي داخل دول أعضاء المجلس، خاصة أن اليمن ينتمي الى مجموعة الدول منخفضة الدخل، وهو ما يتناقض مع مستويات الدخول في دول مجلس التعاون الخليجي، هذا فضلا عن الاختلاف الشديد في مستوى البنية التحتية والنشاط الاقتصادي بصفة عامة بين الجانبين. بيد أن المسألة لن تحل من خلال ما يراه بعض المراقبين من إمكانية مضاعفة التدفقات المالية والاستثمارات الخليجية لمساعدة اليمن في إعادة التأهيل الاقتصادي، اذ يقف أمام ذلك مجموعة من التحديات، منها المتعلقة بخصائص الاقتصاد اليمني كأحد اقتصادات الدول منخفضة الدخل، ومنها المتعلقة بالتحديات المستقبلية التي تواجه الاقتصاد اليمني، خاصة توقعات نضوب النفط، وتلاشي المصدر الرئيسي للدخل القومي. ولذلك، سنحاول، من خلال هذه الورقة، التعرف على الجهود التصحيحية التي يقوم بها اليمن لتثبيت الاختلالات الرئيسية التي تعتري المتغيرات الاقتصادية الكلية، بالتعاون مع مؤسسات بريتون وودز، وكذلك سنحاول استشراف السيناريوهات المستقبلية المتوقعة حال نضوب النفط في الأجل المتوسط، وتأثير ذلك على استقرار البلاد والمدى الذي يمكن أن تسهم به المساعدات الخارجية -لاسيما من دول مجلس التعاون الخليجي- في تخفيف حدة تلك الآثار.

اقتراب جديد للبرمجة المالية للدول منخفضة الدخل :

من المعروف أن صندوق النقد الدولي ينتهج اقتراب البرمجة المالية Financial Programming (1) كأسلوب لتحقيق التثبيت الاقتصادي في الدول التي تعاني موازين مدفوعاتها عجزا مؤقتا بسبب انخفاض عوائد صادراتها أو ارتفاع تكلفة وارداتها بسبب ظروف مؤقتة تطرأ على السوق العالمية. وطبقا للمادة الأولى من اتفاقية النظام الأساسي، يهدف الصندوق إلى تحقيق استقرار أسواق العملات الأجنبية (سعرالصرف) من أجل تفادي قيام الدول بسلسلة من تخفيض قيمة عملاتها الوطنية من أجل مواجهة الظروف الطارئة في اختلال موازين مدفوعاتها. ولكي تبقى أسعار الصرف ثابتة (أو متحركة بين هوامش ثابتة)، يتعين على صندوق النقد الدولي إقراض الدول المتعثرة من أجل تعويض النقص المستمر في احتياطي عملاتها الأجنبية، وهو الإجراء الضروري للحفاظ على ثبات سعر الصرف. بيد أن بعض الدول تلجأ -عند حدوث صدمة اقتصادية تهدد بانخفاض حصيلة النقد الأجنبي- إلى تحفيز الطلب الكلي من أجل زيادة الناتج القومي وزيادة معدلات التشغيل، وذلك من خلال زيادة الإنفاق الحكومي (زيادة عجز الموازنة العامة). وتعتبر الاستدانة من القطاع النقدي هي أسهل السبل على الدول ذات الدخل المنخفض التي لا يوجد بها قطاع خاص قوي قادر على تمويل الدين العام، أو حتى لا يمكن الاعتماد علىه في زيادة الاستثمار المحلي (وبالتالي زيادة الطلب الكلي). يري أسلوب البرمجة المالية الذي ينتهجه صندوق النقد الدولي أن زيادة عجز الموازنة يؤدي حتما إلى زيادة عرض النقود في الاقتصاد الذي لا تقابله زيادة مماثلة في الناتج الحقيقي، الأمرالذي يؤدي إلى ارتفاع التضخم النقدي، والدخل النقدي وبالتالي زيادة حجم الواردات، ومزيد من عجز ميزان المدفوعات وانخفاض احتياطي العملات الأجنبية. ومن هنا، جاءت روشتة الصندوق المعروفة، والتي توصي بأن الخطوة الأولى والأساسية في تصحيح العجز في ميزان المدفوعات تتمثل في خفض عجز الموازنة، ولاسيما من خلال تخفيض النفقات العامة التي تعتبر المصدر الرئيسي لزيادة عرض النقود. بيد أن هذه السياسة انعكست بشكل سلبي على الطبقات الفقيرة في الدول منخفضة الدخل، حيث لم تؤد فقط إلى زيادة معدلات الفقر وإنما أدت أيضا إلى زيادة حدته، هذا بالإضافة إلى تباطؤ النمو، وبالتالي زيادة معدلات البطالة، وهو الأمر الذي انطوى على الكثير من الانتقادات التي وجهت إلى صندوق النقد الدولي في برامج التسهيلات الائتمانية، التي كان يمنحها للدول منخفضة الدخل (تعتبر الدولة منخفضة الدخل إذا انخفض الناتج المحلي للفرد فيها عن 875 دولارا سنويا طبقا لآخر تحديث قام به صندوق النقد الدولي عام 2004) والمعروف باسم التسهيل المعدل للتكيف الهيكلي ESAF. ونتيجة لذلك، أطلق صندوق النقد الدولي في عام 1999 مبادرة جديدة أطلق علىها تسهيل تخفيض حدة الفقر وتعزيز النمو PRGF من أجل مساعدة تلك الدول في الاستمرارفي تطبيق سياسة التثبيت الاقتصادي والمالي، مع التركيز على تخفيض معدلات الفقر في إطار استراتيجية شاملة للنمو. وقد منح تسهيل PRGF للدول منخفضة الدخل تسهيلا ائتمانيا غير مسبوق في شروطه الميسرة، حيث تضمن دعما لسعر الفائدة، بحيث بلغ سعر الفائدة المدين (بالنسبة للدولة المستفيدة) 0.5%، وكذلك فترة سماح لسداد القرض من خمس سنوات ونصف سنة إلى عشر سنوات (والسداد بعد سنتين ونصف سنة من تاريخ تسلم آخر قسط من المسحوبات) و بلغت مساهمة الدول المتقدمة / المانحة في هذا البرنامج نحو 50 مليار دولار. يتضمن قرض الـ PRGF مشروطية تتأسس على منهج البرمجة المالية السابق توضيحه، علاوة على مشروطية هيكلية تتعلق بدعم الجانب المؤسسي في الدولة. أي بمعني آخر، لا يقتصر هذا البرنامج على تخفيض مستويات الاستيعاب المحلية (الاستهلاك والاستثمار) فحسب، وإنما يركز أيضا على تدعيم العوامل المحفزة لزيادة العرض الكلي من خلال تنفيذ إصلاحات هيكلية تتضمن تحسين المناخ الملائم لزيادة النشاط الاقتصادي، وتدعيم قدرات القطاع المصرفي في زيادة الادخار المحلي وتوجيهه للأنشطة الاستثمارية والتجارية المتنوعة، بالإضافة إلى زيادة فعالية المؤسسات العامة والحكومية، بما في ذلك المنظومة القانونية والقضائية اللازمة لضمان تنفيذ الالتزامات التعاقدية الناشئة عن المعاملات الاقتصادية والتجارية المختلفة.

كما سبق توضيحه، فان قرض الـ PRGF يتأسس على أهمية ايلاء الأولوية لخفض معدلات الفقر، وتحفيز النمو الاقتصادي. ولذلك، اشترط صندوق النقد الدولي على الدول المستفيدة من موارد هذا التسهيل (وأيضا البنك الدولي من خلال مؤسسة التنمية الدولية)، وكرد على الانتقادات التي وجهت إلى تسهيل الـ ESAF ، أن تقوم بإعداد ورقة تتضمن استراتيجية وطنية لتخفيض حدة الفقر، والمعروفة مجازا باسم PRSP (2) بحيث تتضمن أربعة عناصر: السياسة الاقتصادية الكلية، والسياسات المتعلقة بالإصلاحات الهيكلية التي من شأنها أن تعزز النمو المستدام. حزمة من السياسات التي من شأنها تعزيز الحكم الرشيد، بما في ذلك تحسين نظم الإدارة المالية في القطاع العام. صياغة سياسات قطاعية تستطيع أن تتعامل مع الأبعاد المختلفة لمشكلة الفقر. دراسة التكلفة الواقعية لتنفيذ تلك الاستراتيجية، بحيث توضح الموارد المطلوب توفيرها، سواء محليا أو خارجيا.

اليمن ومؤسسات بريتون وودز :

انضمت الجمهورية اليمنية رسميا إلى صندوق النقد الدولي يوم 22 مايو 1990 (عند توحيد الشطرين الشمالي والجنوبي). وخلال الخمسة عشر عاما الماضية، يمكن القول إن علاقات اليمن بكل من صندوق النقد والبنك الدوليين كانت في مجملها علاقة إيجابية من حيث حجم المساعدات التي حصل علىها والإصلاحات الاقتصادية التي قام بها من تثبيت المتغيرات الكلية في الاقتصاد، وإصلاحات هيكلية أخرى قامت على تعريف صحيح ودقيق لطبيعة المشاكل والتحديات التي تواجه تحقيق مستويات مرضية من النمو.

1- علاقة اليمن بصندوق النقد الدولي:

بدأ اليمن بالاقتراض في عام 1996 من خلال تسهيل الترتيب المؤقت - Stand by Arrangenment وهو التسهيل الذي يعالج الاختلالات المؤقتة في ميزان المدفوعات دون الأخذ في الاعتبار أي مشكلة هيكلية ذات طبيعة طويلة الأجل -حيث حصل على 132.8 مليون دولار، حقوق السحب الخاصSDR وفور انتهاء هذا القرض، حصل اليمن على قرض جديد من خلال التسهيلات الممتدة EFF ، وهي نوع آخر من التسهيلات استحدثها الصندوق في عام 1974 لكي يقدم مساعدات متوسطة الأجل للدول التي تعاني حدوث بعض الأخطاء الهيكلية في عملية تصحيح هياكلها الإنتاجية والتجارية علاوة على ضعف موازين مدفوعاتها بالقدر الذي يعرقل تنفيذ سياسة تنموية فعالة. ثم قام اليمن بعد ذلك باللجوء إلى تسهيل الـ ESAF الخاص بالدول منخفضة الدخل الذي تحول بعد ذلك إلى PRGF ، حيث وصل إجمالي القرض الذي حصل علىه من خلال هذا التسهيل إلى 208 ملايين دولار حقوق سحب خاصة SDR ، والذي يمثل 85.7% من حصة اليمن في الصندوق. وخلال الأعوام التي تخللت الحصول على تلك المساعدات، قام اليمن بجهود تصحيحية عديدة منها التثبيت الاقتصادي، وتحرير الأسعار، وتوحيد سعر الصرف، وتحرير التجارة وتخفيض الدين الخارجي. ولكي يستفيد اليمن من ترتيب الـ PRGF وكذلك القروض الميسرة لمؤسسة التنمية الدولية IDA التابعة للبنك الدولي، قامت الحكومة اليمنية بإعداد المسودة الأولي لورقة استراتيجية تخفيض الفقر (I- PRSP) التي تم تضمينها في الرؤية الاستراتيجية 2005 التي أعدتها الحكومة اليمنية، وهي رؤية تنموية شاملة طويلة الأجل. وبذلك، أصبح تخفيض الفقر أحد أهم مكونات الخطط الإنمائية، وركيزة أساسية للمساعدات الخارجية التي يتلقاها اليمن. وقد وافق كل من مجلس إدارة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على I PRSP واعتبر كل منهما إياها أساسا متينا يمكن أن يتم البناء علىه عند إعداد الورقة النهائية لاستراتيجية تخفيض الفقرPRSP . وقد تم إقرار تلك الورقة للأعوام 2003 - 2005 في 31 مايو من عام 2002، ووافق علىها صندوق النقد الدولي في أول أغسطس من عام 2002 . وباكتمال إعداد وإقرار ورقة استراتيجية تخفيض حدة الفقر، تكون السياسة الاقتصادية اليمنية قد أعطت وزنا متساويا لكل من اعتبارات استقرار الاقتصاد الكلي من ناحية، والتحديات الخاصة بتخفيض حدة الفقر وتحفيز النمو الاقتصادي (والتشغيل ) من ناحية أخرى. ومن جانبه، يواصل صندوق النقد الدولي مشاوراته السنوية طبقا للمادة الرابعة من اتفاق النظام الأساسي لبحث مدى التزام الحكومة اليمنية بأهداف التثبيت الاقتصادي في إطار برامج المساعدات التي تلقتها، وهي في مجملها تشكل المشروطية الموضوعة من قبل الصندوق، لكي تكون الدولة مؤهلة للاستفادة ليس فقط من موارد الصندوق ولكن من الجهات المانحة الأخرى، وعلى رأسها البنك الدولي.

2- علاقة اليمن بالبنك الدولي :

أسس البنك الدولي استراتيجية مساعداته لليمن (CAS) على ورقة استراتيجية تخفيض الفقر PRSP، وعلى المناقشات التي دارت في مراحل إعدادها بمشاركة منظمات المجتمع المدني، حيث جاءت أهداف تلك الاستراتيجية لتصب في مجملها في دعم الجانب المؤسسي الذي تعتبره مؤسسات بريتون وودز ونظريات النمو الحديثة أحد أهم معوقات التنمية. وبصفة عامة، جاءت أهداف تلك الاستراتيجية على النحو الآتي : تعزيز الحكم الرشيد في المؤسسات العامة، بما في ذلك من إعداد جيد وشفاف في الميزانيات، وتدعيم القدرات المؤسسية للمؤسسات المحلية وتحسين الخدمات العامة وتلك المقدمة لمجتمع الأعمال. إيجاد مناخ جاذب للاستثمار وإيجاد فرص عمل جديدة، وذلك من خلال تبسيط الإجراءات الإدارية والضريبية، والعمل على ضمان تنفيذ الالتزامات التعاقدية ودعم البنية الأساسية. تطوير قدرات رأس المال البشري من خلال التوسع في التعلىم الأساسي، وتقليل الفجوة بين المتعلمين من الذكور والإناث في مراحل التعلىم الأساسي والثانوي، وتحسين نظم التدريب المهني والفني، وأخيرا تحسين خدمات الصحة العامة وتسهيل النفاذ إلىها. المساعدة في صياغة السياسات وتنفيذ الاستثمارات الخاصة بالحفاظ على مصادر المياه، والحفاظ على التربة ومصادر الثروة السمكية. وبناء على هذه الأهداف، في 31 ديسمبر 2004، وافقت مؤسسة التنمية الدولية IDA التابعة للبنك الدولي على إتاحة قروض تنموية لمحفظة من المشروعات (بلغت 19 مشروعا) بقيمة 2.2 مليار دولار تم تخصيصها على النحو الآتي : 26% ( لقطاع المياه )، 19% (للتعلىم )، 15% (للصحة)، 16% (للإدارة العامة)، 9% (للزراعة)، 8% (للنقل)، 6% (للطاقة ) 1% (للقطاع المالي والمصرفي).

تداعيات نضوب النفط على الاقتصاد اليمني

على الرغم من الارتفاع الكبير في أسعار خام النفط منذ الحرب على العراق وحتى الآن، إلا أنه اعتبارا من عام 2004، بدأت المؤشرات تشير إلى أن اليمن سيودع مجموعة الدول النفطية قريبا بسبب انخفاض إنتاج حقوله، وعدم وجود أية اكتشافات جديدة في الأفق القريب تعوض النقص المستمر. وبصفة عامة، توجد تسع مناطق نفطية في اليمن، أكبرها في مأرب وماسيلا حيث يشكل انتاجهما بمفردهما نحو ثلاثة أرباع إجمالي الإنتاج النفطي في اليمن. وتشير التقديرات إلى أنه في حالة عدم ظهور اكتشافات جديدة، فإن الاحتياطيات قد تنضب في غضون 12 - 14 سنة (عام 2018 ). ولكي نتعرف على مدى خطورة التحدي الذي يشكله نضوب الإنتاج النفطي في اليمن، يكفي القول إن النفط يشكل نحو 83% من حصيلة الصادرات السلعية والخدمية لليمن، و71% من الإيرادات العامة طبقا لأرقام عام 2001. كما أن معدل النمو في الصادرات غير النفطية جاء أقل من النقص المتوقع في العائدات النفطية، وهو الأمر الذي ينذر بحدوث عجز كبير ومتسارع في قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها التنموية المحددة في الأهداف التنموية للألفية .MDGS ولقد بدأت أولى بوادر تداعيات انخفاض الإنتاج النفطي تظهر في عام 2004، حيث انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 2.7% في عام 2004 بسبب تباطؤ نمو القطاع النفطي. وإذا تم استبعاد القطاع النفطي، فإن معدل نمو الناتج المحلي الحقيقي يبلغ 4.1% وفقا لتقديرات العام نفسه وذلك بسبب النشاط الملحوظ في قطاع البناء والتشييد، والنقل والمواصلات، والتجارة، ويرجع ذلك إلى النمو في الطلب الكلي بواسطة زيادة الإنفاق الحكومي (الاستثماري والاستهلاكي)، الأمر الذي أدى إلى زيادة العجز المالي بمقدار 1% عن المعدل المخطط له، إذ وصل إلى 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن الصندوق أشار إلى أن السياسة التوسعية أدت -في جزء منها- إلى زيادة معدل التضخم (مؤشر أسعار المستهلك)، حيث وصل إلى 14.5% في عام 2004 بزيادة قدرها نقطتان ونصف نقطة مئوية عن عام 2003 .

قامت بعثة صندوق النقد الدولي - التي زارت اليمن في نهاية عام 2004 لإجراء المشاورات السنوية طبقا للمادة 4 من اتفاق النظام الأساسي- بإعداد مجموعة من التوصيات فيما يتعلق بالسياسة المالية، والسياسة النقدية والإصلاحات الهيكلية التي يتعين على اليمن اتباعها لمواجهة التحدي الناجم عن نضوب النفط في المستقبل المنظور. ويناقش هذا المقال، في إطار التركيز على بحث الآثار المتوقعة لنضوب النفط في المستقبل المنظور، كلا من السياسة المالية والسياسة النقدية وسعر الصرف، دون التطرق إلى الإصلاحات الهيكلية التي تتطلب بحثا مستقلا، نظرا لأهميتها بالنسبة لتأهيل القدرات المؤسسية للاقتصاد اليمني.

السياسة المالية في ظل انخفاض النفط :

قامت بعثة الصندوق بتقدير التأثير المتوقع للانخفاض المستمر في إنتاج النفط على حجم الدين الداخلي، حيث قامت بصياغة سيناريو في حالة عدم الأخذ بأي إصلاحات، وتبين أن نسبة الدين المحلي إلى إجمالي الناتج المحلي ستزداد إلى 181% بحلول عام 2014 وهو العام المتوقع أن ينخفض فيه الإنتاج النفطي بنسبة 94%. وطبقا لنتائج مجموعة من الدراسات عن الدول الصاعدة، فإن المعدل الآمن للدين المحلي إلى الناتج المحلي الإجمالي يتراوح من 15 إلى 50%. إلا أن صندوق النقد الدولي يرى أنه بالنسبة لحالة اليمن الذي يتميز بضعف مؤسسي، فإن المعدل يجب أن يقترب أكثر من الحد الأدنى. ومع ذلك، فإن ظروف الدولة، ولاسيما ارتفاع معدل الفقر والانخفاض المتسارع في الإنتاج النفطي، تتطلب بقاء النسبة عند حدها الأعلى. ومن أجل التوصل إلى الحدود الآمنة المشار إلىها، فإن تقديرات الصندوق ذهبت إلى أن الحكومة علىها القيام بعملية خفض مستمرة في عجز الموازنة العامة (باستبعاد القطاع النفطي) بمقدار 22.5% لمدة 12 عاما، بحيث تصل نسبة الخفض السنوية إلى 1.9% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا. ولكن ما هي التحديات التي تقف أمام هذه الخطوة التصحيحية الكبيرة؟ إن أول تلك التحديات وأهمها هي ارتفاع معدلات الفقر وحدته في اليمن. أوضحت نتائج استبيان لميزانية الأسرة في عام 1998 أن 17.6% من الشعب اليمني يعيشون تحت خط الفقر الغذائي (أي أنهم لا يستطيعون الحصول على الاحتياجات الغذائية التي تحقق الحد الأدنى للسعرات الحرارية اللازمة للإنسان يوميا)، في حين أن النسبة ترتفع إلى 41.8% إذا ما تم توسيع نطاق تعريف خط الفقر ليشمل الحرمان من الاحتياجات الأساسية للفرد من مأكل، وملبس، ومسكن، وعلاج، وتعلىم وانتقالات. كما أوضحت نتائج الاستبيان نفسه أنه بالإضافة إلى الـ 7 ملايين نسمة الذين يعيشون دون خط الفقر، فان عددا كبيرا من السكان يوجدون فوق خط الفقر بمقدار بسيط، وبالتالي فإنهم عرضة للهبوط (بسبب التضخم على السبيل المثال). هذا، وتبلغ نسبة الفقراء من إجمالي سكان المناطق الريفية نسبة 45%، في حين أن النسبة تبلغ 30.8% في المناطق الحضرية. كما أن حدة الفقر (المسافة بين المتوسط والشريحة الدنيا من دخل الفقراء) تزداد بالمناطق الريفية بالمقارنة بالمناطق الحضرية. فعلى سبيل المثال، تعتبر محافظتا تعز وإب من أكثر المحافظات التي ترتفع فيها نسبة الفقراء (وهما أكثر المحافظات اليمنية إنتاجا للحاصلات الزراعية)، إذ تبلغ النسبة 56% للأولى، و 55% للثانية. أما صنعاء وعدن، وهما أكبر مدينتين في اليمن، فتوجد بهما أقل نسبة للفقراء، وهي 23% و30% على التوالي. وأوضحت نتائج الاستبيان عددا من الملاحظات الجديرة بالاهتمام بالنسبة للحالة اليمنية، خاصة بالنسبة للعلاقة بين الفقر وحجم العائلة. فكلما ازداد حجم العائلة، زادت نسبة الإعالة، وتصبح العائلة غير قادرة على تلبية احتياجاتها الأساسية. كما يوضح مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والذي يعكس مقدار الفقر في الاحتياجات الأساسية غير الغذائية الأخرى مثل الصحة ومحو الأمية والتعلىم الأساسي والثانوي والنفاذ إلى مصادر مياه الشرب النقية ... الخ، أن اليمن يأتي في المرتبة الـ 133 ضمن 162 دولة ضمن تقرير التنمية البشرية لعام 2001. تشير نتائج الدراسات التي قام بها Kanbur ، والتي بحثت في العلاقة بين معدلات الفقر وتخفيض عجز الموازنة، أن نسبة الفقراء (أخذا في الاعتبار حدة الفقر) تتضاعف إذا انخفض عجز الموازنة بمقدار وحدة واحدة، وهذا يعني أن عبء تخفيض عجز الموازنة لا يتوزع بالتساوي بين شرائح الدخل المختلفة في المجتمع. كما أوضحت نتائج تلك الدراسة أنه إذا تم توزيع نسبة الخفض في الإنفاق الاستهلاكي بالتساوي بين شرائح الدخل المختلفة، وهو توزيع غير عادل في صالح الفقراء، فإن تلك النسبة تؤدي إلى زيادة معدلات الفقر ستة أضعاف. كما أشارت أيضا نتائج الدراسة نفسها إلى أن انخفاض عجز الموازنة من شأنه أن يزيد من نسبة البطالة، وبالتالي ارتفاع نسبة الفقر، وتزداد قوة العلاقة الارتباطية كلما زاد الفارق بين عدد الفقراء المتعطلين وغير المتعطلين. ولذلك، فقد يكون من الضروري أن يعكف صندوق النقد الدولي والحكومة اليمنية على إجراء مزيد من الدراسات الإمبريقية التي توضح الآثار المحتملة على الفقراء وعلى معدلات النمو (والتشغيل) كنتيجة للسياسة المالية المقترحة من قبل الصندوق، حيث إن ورقة PRSP المشار إلىها سابقا لم تتناول صراحة مخاطر نضوب النفط على زيادة معدلات الفقر كما وكيفا، وبالتالي زيادة التكلفة الاجتماعية لعملية التصحيح الاقتصادي والمالي. وفي تقديرنا، فإن التخفيض في العجز المالي الذي يستهدفه صندوق النقد الدولي يستهدف - في المقام الأول- شق الدعم الاستهلاكي الذي تخصصه الحكومة للسلع الأساسية، ولاسيما الوقود والكهرباء، وذلك حتى يتم تفادي استقطاع المخصصات اللازمة للإنفاق الإنمائي الذي يستهدف تحفيز النمو الاقتصادي. ويعتمد الصندوق على دراسة أعدها البنك الدولي، توصلت إلى أن أقل من 2% من مخصصات الدعم يصل إلى الفقراء. بيد أن الدراسة نفسها حذرت من أن إلغاء الدعم على الوقود سيؤثر تأثيرا مباشرا على أسعار الطعام ووسائل النقل، بالنظر إلى النسبة الكبيرة من الدخل العائلي التي يخصصها الفقراء لهذين البندين. ولمواجهة هذا التأثير السلبي على الفقراء، يشجع الصندوق الحكومة على تشكيل ما يسمى شبكات أمان اجتماعي Social Safety Nets وهما صندوق الضمان الاجتماعي SWF الذي يوفر مساعدات نقدية مباشرة بمتوسط 11 دولارا للأسرة الواحدة شهريا، وصندوق التنمية الاجتماعية الذي يقدم قروضا طويلة الأجل للمشروعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. ولكن ما زالت هذه الصناديق تفتقد معايير الحكم الرشيد والموارد المالية اللازمة لتغطية عدد أكبر من الفقراء.

السياسة النقدية وسعر الصرف :

يواجه البنك المركزي وهي أعلى سلطة نقدية في البلاد - في بعض الفترات، ولاسيما من خلال تلك التي يتم خلالها تطبيق سياسات تصحيحية، وتصاحبها زيادة في تدفقات المساعدات الخارجية - مجموعة من الأهداف تكون متضاربة في بعض الأحيان. فعلى سبيل المثال، عندما تزداد تدفقات العملات الصعبة، نتيجة زيادة المساعدات الخارجية، تزداد كمية النقود المحلية المقابلة، الأمر الذي يهدد بارتفاع في سعر صرف العملة الوطنية (نتيجة زيادة الطلب علىها)، وهو الأمر الذي يتعارض مع نهج صندوق النقد الدولي في تخفيض قيمة العملة الوطنية (أو على الأقل ثباتها عند معدلات تضمن للصادرات الوطنية قدرا مناسبا من القدرة التنافسية). ولذلك، تقوم وزارات الخزانة بإصدار أذون خزانة لامتصاص فائض السيولة من العملة الوطنية المتولدة من زيادة طلب التحويل إلىها(3). ويتطلب هذا الإجراء زيادة في سعر الفائدة لتحفيز الممولين (ومعظمهم من القطاع المصرفي) لشراء أذون الخزانة، وهو الأمر الذي يؤدي في المقابل إلى زيادة عبء الدين الداخلي، علاوة على ما يمكن أن يسفر عن زيادة سعر الفائدة من زيادة في الطلب على العملة الوطنية، تؤدي بدورها إلى زيادة الضغوط لزيادة قيمتها. ومع ذلك، وفي بعض الأحوال، فإن البقاء على سعر الفائدة عند مستويات علىا يكون مطلوبا، خاصة إذا كان الاقتصاد يعاني معدلات تضخم مرتفعة.

تنطلق الحكومة اليمنية، عند صياغة سياستها النقدية وسياسة سعر الصرف، من الآتي: إن ارتفاع معدلات التضخم تعزو بصفة أساسية إلى عوامل تتعلق بظروف العرض، ولاسيما ارتفاع أسعار السلع الغذائية بسبب الظروف المناخية غير المواتية. وتختلف تلك الرؤية مع منهج صندوق النقد الدولي في التعامل مع قضية التضخم. فالصندوق -وبصفة عامة - يري أن التضخم ظاهرة نقدية تنبع من وجود اختلال في سوق النقد بسبب زيادة عرض النقود عن مستوى الطلب علىه.

ومن هنا، يوصي الدول التي تقوم بتنفيذ برامج تثبيت اقتصادي بترشيد السياسة النقدية (أي تقليص عرض النقود). وفي الواقع، فإن تقليص عرض النقود (السياسة النقدية) وتخفيض عجز الموازنة (السياسة المالية) وجهان لعملة واحدة، وإن كان ينطوي على كل منهما آثار مختلفة. وفي الجزء السابق، رأينا أن أحد آثار تقليص الإنفاق العام ينطوي على زيادة معدلات الفقر وتباطؤ النمو، ولاسيما في الدول منخفضة الدخل. أما السياسة النقدية ،فهي ترتبط ارتباطا مباشرا (أو غير مباشر) بكل من معدلات التضخم، ومعدلات نمو الناتج القومي والتشغيل وكذلك سعر الصرف، واحتياجات الدولة من العملة الصعبة. وفي ضوء اختلاف الأهداف والقيود من حالة لأخرى، تنبع اختلاف وجهات نظر حكومات الدول التي تقوم بعملية تصحيحية في اقتصاداتها من ناحية، وصندوق النقد الدولي من ناحية أخرى. فالحكومة اليمنية لا يمكنها تبني رؤية الصندوق المتمثلة في أن التضخم في اليمن يعزو - في جزء كبير منه - إلى التوسع النقدي، حيث ستتطلب تلك الرؤية قيام الحكومة بترشيد سياستها النقدية من خلال إصدار أذون خزانة لامتصاص فائض السيولة، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة على الودائع كنتيجة لزيادة المنافسة. ومعنى ذلك بالنسبة للحكومة اليمنية، التي تسعى إلى مواجهة زيادة كبيرة في النفقات العامة وثبات نسبي في الإيرادات العامة، أن تستغني عن أداة السياسة النقدية في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بل والسياسي. ولذلك، رفضت الحكومة مقترح الصندوق، معللة ذلك بأن سعر الفائدة إذا تحرر فإنه سيهبط (خلافا لما تذهب اليه النظرية الاقتصادية من حيث إن تحرير سعر الفائدة يؤدي الى ارتفاعه)(4)، هبوطا شديدا بسبب عدم فعالية أداة سعر الفائدة في السياسة النقدية في اليمن، بالنظر إلى تنامي دور البنوك الإسلامية في الاقتصاد اليمني، ورفضها التعامل بالفائدة أو حتى تداول أذون الخزانة(5). تنتهج الحكومة اليمنية سياسة مرنة لسعر الصرف، إلا أن السلطات النقدية تؤثر ثبات سعره وتقوم بالتدخل لشراء عملتها الوطنية للحفاظ على سعر الصرف(6)، وذلك لاعتقادها بوجود علاقة ارتباطية شديدة بين تخفيض قيمة الريال اليمني وارتفاع مؤشر أسعار المستهلك.

الا أن صندوق النقد الدولي حذر الحكومة اليمنية من أن تقلص إنتاج النفط في المستقبل المنظور سيزيد من عجز ميزان المدفوعات، خاصة في ضوء استمرار ارتفاع قيمة الواردات بسبب ظروف مواجهة حدة الفقر وتحفيز النمو، الأمر الذي سيؤدي إلى تدهور شديد في قيمة العملة الوطنية.

مما سيؤدي، بالإضافة إلى اشتعال المستوى العام للأسعار، إلى زيادة المديونية الخارجية. ومن وجهة نظر الصندوق، فإن تأجيل انتهاج سياسة تدريجية لتخفيض قيمة العملة الوطنية (التي من شأنها أن تحفز الصادرات غير البترولية التي يتعين على اليمن تنشيطها لمواجهة انخفاض صادراتها النفطية) سيؤدي إلى زيادة تكلفة الخطوات التصحيحية مستقبلا في هذا المضمار، الأمر الذي قد يؤثر على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.

خلاصة وتقييم

تناول هذا المقال إحدى أهم التحديات التي ستواجه اليمن في المستقبل المنظور، وهو تراجع الإنتاج النفطي وعوائده. وبالتالي، فإن اليمن أصبح مطالبا بتنويع قاعدته الإنتاجية والتصديرية، والإسراع بتنفيذ خطط الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية بالشكل الذي يضمن له تخفيض التكلفة الاجتماعية لسياسات التثبيت الاقتصادي، وبالتالي عدم تعريض استقرار البلاد للخطر. فبالنظر إلى أن اليمن ينتمي إلى مجموعة الدول منخفضة الدخل، بما ينطوي على ذلك من تحديات تحد من هامش الحركة لصانع القرار، حيث إن إحدى خصائص تلك الاقتصادات أنها اقتصادات مشبعة، فإن أي سياسة من قبل الحكومة لزيادة الطلب الكلي (لمواجهة صدمة اقتصادية مثل انخفاض الإنتاج النفطي تنذر بانخفاض مستوى الدخل القومي وبارتفاع معدلات البطالة وبالتالي الفقر) ستقابل بزيادة التضخم دون حدوث أي ارتفاع في الناتج الحقيقي.كما أن هطول المساعدات الخارجية - ولاسيما من دول مجلس التعاون الخليجي- لا ينبغي أن يؤدي إلى التهوين من شأن التحديات التي سبق أن أوضحناها من خلال هذا المقال. إذ إن نجاح تلك المساعدات سيتوقف على كيفية الاستفادة منها، وهذا بدوره يتوقف على نجاح الحكومة اليمنية في زيادة القدرة الاستيعابية للاقتصاد اليمني بالشكل الذي يضمن استجابة العرض لزيادة الطلب الكلي من خلال زيادة الإنفاق الاستثماري المتوقع، لأنه إذا تأخرت تلك الاستجابة، فإن التضخم سيصبح لا مفر منه، وستزداد فاتورة أي خطوة تصحيحية ستقوم بها الحكومة لمعالجة الاختلالات في توازن المتغيرات الاقتصادية الكلية.

قنصل عام جمهورية مصر في عدن سابقاً .. قضايا السياسة الدولية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى