> «الأيام» أ.م.فضل قائد علي:
منذ أن تشرنقت وتفتحت براعم وعينا، وبدأت ترتسم على صفحة عقولنا البيضاء بواكير مداركنا الغضة، تشكلت ملامح وجداننا وعواطفنا وبراءة مشاعرنا، في مقتبل أعمارنا، أواخر خمسينات القرن الماضي، كانت الحبيبة عدن، بجبالها ومبانيها وحوافيها التاريخية، وبيوتها المتسقة الجميلة، الصدر الحنون، والحضن الدافئ، الذي رضعنا منه أولى قطرات الحب، كما ارتشفنا أبجديات معارفنا بعبقرية المكان وجماليات الزمان، ومن رحيق الحبيبة عدن تغدينا بجميل معاني الحب والتسامح والتكافل والعطاء.
عدن يا سادتي، كما قال الدكتور الذي أحب، جعفر الظفاري، «اسم بديع النغم، تفوح من ثنايا حروفه عطور الزمن، اسم ظل، منذ زمن الاغريق وحتى يومنا هذا، يتردد في منثور القول وموزونه، عاكساً ذكريات ترسبت في أغوار العقل وفي مسالك النفس، ومطاوي الضمير.
عدن عروس البحار، ودهليز الصين، وفرضة اليمن.. هي العربية السعيدة فإن دالت الأيام ستنهض من كبوتها وتعلو إلى مقامها الأسنى». عدن، كما قال المجاهد محمد علي لقمان المحامي، هي دائرة اليمن، وعندما التقى في لندن، المستر جر يفتس، وزير المستعمرات، لم تخنه شجاعته عندما قال للوزير: إننا نطالب بالحكم الذاتي ونرغب من كل قلوبنا أن تمنحونا الحكم الذاتي.
ثم يضيف لقمان قائلاً:
- لقد قلت للوزير هذا القول وشعرت عندئذ بحمل ثقيل ينزاح عن كاهلي... إلخ.
بيوت أهل عدن الطيبين، كلها دون استثناء، بيوتنا نحن أطفال ذلك الزمن، نشرب من بيت الحوباني إذا عطشنا، ونأكل في بيت اليريمي إذا جعنا، وكنا - عندما بدأ البث التلفزيوني في عدن - نجتمع اطفالاً من بيوت شتى لمشاهدته في بيت اليريمي مع أبنائه دون أن تفرق السيدة الكريمة حرم اليريمي بيننا وبين أبنائها وبناتها في الرعاية مشرباً ومأكلاً، جزاهم الله عنا خيراً. ولا أنسى ما حييت الفاضل علي عبدالله السندي، الذي كان ينقلنا بسيارته (الفيات) مع أبنائنه إلى ابتدائية الخساف، والشاب الشهم حسن هندي، الذي كنا نلجأ إليه عندما نقع في أي إشكال، وقل مثل ذلك عن آل خليفة، وشماخ، والصعيدي، والبديجي، وخذابخش والشيباني.
وغيرهم ممن لا يتسع المقال لذكرهم، وهم كثر، فقد كانت بيوتهم، كقلوبهم البيضاء، مفتوحة لنا نحن أطفال ذلك الزمان، بل حتى الطيور والقطط كانت تنتظر ظهر كل يوم رجل الإحسان، الفاضل الرمادة، وزنبيله المليء بغدائها، فتتبعه منذ خروجه من سوق البلدية بكريتر وحتى بيته، وهو ينثر لهم الطعام يميناً ويساراً.
عدن يا سادتي لا تعرف العُقد، فأبناؤها، بمختلف أطيافهم وأصولهم المتنوعة، يشكلون نسيجاً متسقاً، لوحة تتجلى روعتها بتناسق ألوانها، ولا معنى ولا أهمية لتباين مواليدها العرقي، فكل الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تنصهر في بوتقة واحدة اسمها عدن، وقد صدق الاستاذ محمد فارع الشيباني في مقاله في الصفحة الأخيرة لصحيفة «الأيام» البديعة الصادرة يوم الخميس 2 نوفمبر 2006م، اقرأوه لتعرفوا المغزى. ففقراء عدن أعزاء، والموسرون كرماء، هكذا كانوا في الخمسينات والستينات وحتى يومنا هذا، فالمعدن النفيس لا يشوبه الصدأ.
عندما جعل الإنجليز مدارس عدن الحكومية لأسباب خاصة بهم، حصراً على مواليد عدن، نهض المتنورون من أهل عدن وفتحوا مدارس أهلية تستوعب كل أبناء اليمن، فالشكر كل الشكر لآل بازرعة، والبيحاني وغيرهم في المناطق الأخرى، وقد أخرجت هذه المدارس نخبة من المتعلمين والمثقفين، الذين صار لهم شأن في اليمن الواحد، وهم أنفسهم يعترفون بهذا الدور الريادي لعدن وأهاليها الذين لم يكونوا يميزون بين أبناء اليمن من أين أتوا، فالكل في الهم شرق.
وعندما صرنا، في ستينات القرن الماضي، تلامذة في الابتدائية، وبحكم المواقع، كانت مدرسة الخساف موئلنا التعليمي والتربوي، وأكرر التربوي، هذه الصفة التي لم يبق منها اليوم إلا الاسم، والتي كانت، وقتذاك، تقدم على التعليم وشاء الله تعالى أن نتلقى أبجديات علومنا على يد معلمين أفاضل ربونا وعلمونا، بل وثقفونا، وزرعوا فينا حب القراءة وصداقة الكتاب( كتب الأطفال) فكان تقليداً أن يشتري كل تلميذ كتاباً، يسميه المعلم، لمنع التكرار، من مكتبة الحاج عبادي في قلب الشارع الطويل ثم نتبادل الكتب، فيقرأ التلميذ أكثر من كتاب، فشكراً أساتذتي الأعزاء ، ومنهم فريد صحبي، بدر باسنيد (المحامي حالياً)، نجيب أمان، طه مسعود، جميل غانم، جواد غانم، بامطرف، بازرعة، وغيرهم أطال الله بعمر الأحياء، ورحم الله من انتقل إلى جواره.
هؤلاء علمونا حب الوطن، سواء اليمن، أم الوطن العربي الكبير (وطني حبيبي وطني الأكبر)، كما عرفنا منهم معنى أن بلدنا محتل، وعلينا أن ننال حريتنا، وأن مصر عبدالناصر قدوتنا، ومنهم عرفنا أن عالمنا أكبر مما كنا نتصور، وقد ساعدت مجلات الأطفال المصرية في تنمية ذلك الوعي، وهنا أشيد بدور الأستاذين فريد صحبي وبدر باسنيد في تنميتهما للحس الوطني لدينا.
كانت عدن، ومازالت، مركز استقطاب لكل أبناء اليمن من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ففيها تمثيل نسبي لكل يمني، ومن جميع مدن وقرى وجبال ووديان اليمن، فهي لوحة فسيفسائية بديعة، لوحة قلما تجدها، وبالمستوى نفسه، في أي مدينة يمنية أخرى، فعدن، شئنا أم أبينا هي الرقم الصعب، والثغر الباسم، والعروس التي لا تشيخ، ولا أنسى ما قاله أنيس منصور: «هونج كونج هي أرخص مدينة في العالم بعد عدن».
عدن يا سادتي هي العقد الفريد في جيد الزمن، وهي ذات الموقع العالمي الاستراتيجي الذي جعلها، كما قال الدكتور محمد عبدالكريم الشمري، محط أطماع كثير من القوى في العالم.. بل ومحط الكثير من الجاليات الأجنبية، جاليات دخلتها ولم تستطع الانعتاق من جاذبيتها، جاليات سكنتها وتصاهرت وتناسلت بين ظهرانيها، فتعدنت، أي صارت عدنية، وهذا ما جعل عدن مدينة متعددة الثقافات، بل جعلها إكلـيلاً على هامة التاريخ، وأكرر جعلها عقداً فريـداً على جيد الزمن. وهنا أشيد بدور الأستاذ أحمد الكحلاني، محافظ عدن، الذي يعمل بجهد كبير لإنارة عدن ونظافتها، كما كـانت زمن طفولتنا وصبانا وشبابنا، والغد يبشر بمستقبل أفضل لعدن وأبنائها.. فلننتظر!
رئيس قسم الفلسفة - جامعة عدن
عدن يا سادتي، كما قال الدكتور الذي أحب، جعفر الظفاري، «اسم بديع النغم، تفوح من ثنايا حروفه عطور الزمن، اسم ظل، منذ زمن الاغريق وحتى يومنا هذا، يتردد في منثور القول وموزونه، عاكساً ذكريات ترسبت في أغوار العقل وفي مسالك النفس، ومطاوي الضمير.
عدن عروس البحار، ودهليز الصين، وفرضة اليمن.. هي العربية السعيدة فإن دالت الأيام ستنهض من كبوتها وتعلو إلى مقامها الأسنى». عدن، كما قال المجاهد محمد علي لقمان المحامي، هي دائرة اليمن، وعندما التقى في لندن، المستر جر يفتس، وزير المستعمرات، لم تخنه شجاعته عندما قال للوزير: إننا نطالب بالحكم الذاتي ونرغب من كل قلوبنا أن تمنحونا الحكم الذاتي.
ثم يضيف لقمان قائلاً:
- لقد قلت للوزير هذا القول وشعرت عندئذ بحمل ثقيل ينزاح عن كاهلي... إلخ.
بيوت أهل عدن الطيبين، كلها دون استثناء، بيوتنا نحن أطفال ذلك الزمن، نشرب من بيت الحوباني إذا عطشنا، ونأكل في بيت اليريمي إذا جعنا، وكنا - عندما بدأ البث التلفزيوني في عدن - نجتمع اطفالاً من بيوت شتى لمشاهدته في بيت اليريمي مع أبنائه دون أن تفرق السيدة الكريمة حرم اليريمي بيننا وبين أبنائها وبناتها في الرعاية مشرباً ومأكلاً، جزاهم الله عنا خيراً. ولا أنسى ما حييت الفاضل علي عبدالله السندي، الذي كان ينقلنا بسيارته (الفيات) مع أبنائنه إلى ابتدائية الخساف، والشاب الشهم حسن هندي، الذي كنا نلجأ إليه عندما نقع في أي إشكال، وقل مثل ذلك عن آل خليفة، وشماخ، والصعيدي، والبديجي، وخذابخش والشيباني.
وغيرهم ممن لا يتسع المقال لذكرهم، وهم كثر، فقد كانت بيوتهم، كقلوبهم البيضاء، مفتوحة لنا نحن أطفال ذلك الزمان، بل حتى الطيور والقطط كانت تنتظر ظهر كل يوم رجل الإحسان، الفاضل الرمادة، وزنبيله المليء بغدائها، فتتبعه منذ خروجه من سوق البلدية بكريتر وحتى بيته، وهو ينثر لهم الطعام يميناً ويساراً.
عدن يا سادتي لا تعرف العُقد، فأبناؤها، بمختلف أطيافهم وأصولهم المتنوعة، يشكلون نسيجاً متسقاً، لوحة تتجلى روعتها بتناسق ألوانها، ولا معنى ولا أهمية لتباين مواليدها العرقي، فكل الفوارق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تنصهر في بوتقة واحدة اسمها عدن، وقد صدق الاستاذ محمد فارع الشيباني في مقاله في الصفحة الأخيرة لصحيفة «الأيام» البديعة الصادرة يوم الخميس 2 نوفمبر 2006م، اقرأوه لتعرفوا المغزى. ففقراء عدن أعزاء، والموسرون كرماء، هكذا كانوا في الخمسينات والستينات وحتى يومنا هذا، فالمعدن النفيس لا يشوبه الصدأ.
عندما جعل الإنجليز مدارس عدن الحكومية لأسباب خاصة بهم، حصراً على مواليد عدن، نهض المتنورون من أهل عدن وفتحوا مدارس أهلية تستوعب كل أبناء اليمن، فالشكر كل الشكر لآل بازرعة، والبيحاني وغيرهم في المناطق الأخرى، وقد أخرجت هذه المدارس نخبة من المتعلمين والمثقفين، الذين صار لهم شأن في اليمن الواحد، وهم أنفسهم يعترفون بهذا الدور الريادي لعدن وأهاليها الذين لم يكونوا يميزون بين أبناء اليمن من أين أتوا، فالكل في الهم شرق.
وعندما صرنا، في ستينات القرن الماضي، تلامذة في الابتدائية، وبحكم المواقع، كانت مدرسة الخساف موئلنا التعليمي والتربوي، وأكرر التربوي، هذه الصفة التي لم يبق منها اليوم إلا الاسم، والتي كانت، وقتذاك، تقدم على التعليم وشاء الله تعالى أن نتلقى أبجديات علومنا على يد معلمين أفاضل ربونا وعلمونا، بل وثقفونا، وزرعوا فينا حب القراءة وصداقة الكتاب( كتب الأطفال) فكان تقليداً أن يشتري كل تلميذ كتاباً، يسميه المعلم، لمنع التكرار، من مكتبة الحاج عبادي في قلب الشارع الطويل ثم نتبادل الكتب، فيقرأ التلميذ أكثر من كتاب، فشكراً أساتذتي الأعزاء ، ومنهم فريد صحبي، بدر باسنيد (المحامي حالياً)، نجيب أمان، طه مسعود، جميل غانم، جواد غانم، بامطرف، بازرعة، وغيرهم أطال الله بعمر الأحياء، ورحم الله من انتقل إلى جواره.
هؤلاء علمونا حب الوطن، سواء اليمن، أم الوطن العربي الكبير (وطني حبيبي وطني الأكبر)، كما عرفنا منهم معنى أن بلدنا محتل، وعلينا أن ننال حريتنا، وأن مصر عبدالناصر قدوتنا، ومنهم عرفنا أن عالمنا أكبر مما كنا نتصور، وقد ساعدت مجلات الأطفال المصرية في تنمية ذلك الوعي، وهنا أشيد بدور الأستاذين فريد صحبي وبدر باسنيد في تنميتهما للحس الوطني لدينا.
كانت عدن، ومازالت، مركز استقطاب لكل أبناء اليمن من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، ففيها تمثيل نسبي لكل يمني، ومن جميع مدن وقرى وجبال ووديان اليمن، فهي لوحة فسيفسائية بديعة، لوحة قلما تجدها، وبالمستوى نفسه، في أي مدينة يمنية أخرى، فعدن، شئنا أم أبينا هي الرقم الصعب، والثغر الباسم، والعروس التي لا تشيخ، ولا أنسى ما قاله أنيس منصور: «هونج كونج هي أرخص مدينة في العالم بعد عدن».
عدن يا سادتي هي العقد الفريد في جيد الزمن، وهي ذات الموقع العالمي الاستراتيجي الذي جعلها، كما قال الدكتور محمد عبدالكريم الشمري، محط أطماع كثير من القوى في العالم.. بل ومحط الكثير من الجاليات الأجنبية، جاليات دخلتها ولم تستطع الانعتاق من جاذبيتها، جاليات سكنتها وتصاهرت وتناسلت بين ظهرانيها، فتعدنت، أي صارت عدنية، وهذا ما جعل عدن مدينة متعددة الثقافات، بل جعلها إكلـيلاً على هامة التاريخ، وأكرر جعلها عقداً فريـداً على جيد الزمن. وهنا أشيد بدور الأستاذ أحمد الكحلاني، محافظ عدن، الذي يعمل بجهد كبير لإنارة عدن ونظافتها، كما كـانت زمن طفولتنا وصبانا وشبابنا، والغد يبشر بمستقبل أفضل لعدن وأبنائها.. فلننتظر!
رئيس قسم الفلسفة - جامعة عدن