قصة قصيرة .. بوابة الحلم

> «الأيام» زهرة رحمة الله:

> حديث صاحبي يسكب دلوا باردا على رأسي الغارق في حمى الركض اليومي.. صاحبي ابن الحارة القديمة يعود من بلاد بعيدة عالماً فلكياً.. حائط منزله يحمل أوسمة وشهادات وهو يقول أشياء كثيرة عن الحسابات الفلكية والكونية.. لأ أفهمها.. لكنني استوعبت قوله بأن هناك فسحة كونية في حائط الزمن تعبر الكون.. كذا كل أعوام.. تنزلق منها بوابة الحلم.. فيجب أن أنزلق فيها بأمنية واحدة عزيزة لمدة ثلاثين ثانية وسأعود منها بهدايا الحياة ونعيمها.

أغوص في المقعد الجلدي الوثير مفكراً .. أفتش عن أمنية حميمة في تجويف رأسي العتيق ، هناك أمان نائمة وأخرى ضامرة وأمان غارقة في الرماد كجثت ألقتها أمواج الحياة على شواطئ قاحلة.

في كراريس الطفولة هناك أمنية مدفونة عن بيت وارف بالحب تعشعش فيه الطمأنينة فقد كان أبي يعاقر الخمر وأمي تدمن القات والشيشة وكانت حياتهما كقطبين مضادين يلتقيان ولا يلتقيان.

في المساء كانت أمي تجلس بجانبه بكامل زينتها وهي تعبئ فاها بوريقات القات وصدرها بدخان الشيشة وتضحك لحديثه وتسعل بشدة فيهتز جسدها ويعرق وجهها ويخرج الدخان من فيها أمواجاً متقطعة.. وأبي كأنه سلطان زمانه يجلس هناك بثيابه النظيفة التي تفوح منها رائحة العطر والعرق وكوفيته البيضاء تميل إلى الأمام يبرز من تحتها شعره الأسود اللامع.. وهو يحلب برفق العشب الأخضر في فمه.. كان يجلس بهدوء ووقار.. كان يخيل إليّ بأنه يرتفع إلى السماوات البعيدة وحين يعود يقذف في أذنها بعض كلمات ويتركها تنفجر ضاحكة.. وفي منتصف الليل نجدهما يقفان تحت ضوء القمر يتناجيان كحبيبين متيمين.. وحين نعود من المدرسة نسمع صراخهما يغطي عنان السماء وأصوات الأواني تتدحرج والكؤوس تنكسر والأثاث تقلب وحشد من الجيران يشهد الدوامة تلف المنزل وتعبث بأركانه.. حينها كنت أشعر بالخجل يلبسني ويدمي قلبي ..كنت أتمنى أن تكون أسرتي..

صاحبي يهزني.. أين أنت..الزمن يتسلل من بين أصابعنا.

أترك أوراق الطفولة الصفراء تنساب بعيدة في ذهني..أمرر أصابعي بين شعري.. أفرك رأسي.. أبحث عن أمنية كانت متأججة في قفصي الصدري.. واليوم ها هي سابحة في لجى مظلم في الماضي البعيد.. هي أن أكون شخصاً مهماً في الحياة.. أو صحافياً أكتب عن الفساد وأقود الفقراء إلى مدينتهم الفاضلة.. لكن أبي رحل فجأة وتركني على أرصفة موحشة اغتالت طفولتي ودفنتني تحت أكداس المسؤوليات وثغرات الحياة ألهث خلف الأعمال البسيطة لسد ثغرات الحياة.. فهل..

- لا يجدي التفكير هنا أسرع يا رجل.. صوت صاحبي يخترق أفكاري.. أنظر في وجهه أراه شديد الحماس.. تعلم الفلك والحسابات الغربية.. وقلبه الأخضر ازداد اخضراراً.. يريد أن يتقدم بتجربة العمر.. سيخلده تاريخ الفلك وسأعود أنا بغنيمة العمر..

تقفز في ذهني أمنية كانت آنذاك بحجم الحياة.. أحس بها مشتعلة ينحسر عنها الرماد.. يرتفع نبض قلبي.. تنقطع أنفاسي أحس بها في عروقي.. كانت منعشة كنسمة الصيف ترطب روحي.. بنت الجيران ذلك الحب الذي نشب في خلايا شبابي.. كنت أكتب لها أشعاري وأخفي دفاتري تحت وسادتي كنت أحملها في قلبي تحت رموشي زنبقة بيضاء رقيقة تمدني بنسغ الأمل في صحاري أيامي المجهدة، أكملتْ مرحلة الثانوية والتحقتْ بالجامعة.. وانقطعتُ أنا عن الدراسة فطلبتْ مني أن أكمل الدراسة و قالت الحياة كفاح.. كانت شديدة الحماس للحياة ومواكب التقدم وحديثها كان شعارات وحكماً.. شمرت عن ساعدي.. وغرقت في طوفان الكفاح.. وانزلقت هي عن رصيفي وارتبطت بإنسان آخر.. وحين سألتها قالت عيش الواقع واترك الرومانسية.. بكيت ليلتها بحرقة ولم أنم حتى الصباح.. كانت أكثر الأماني في صدري احتراقاً وظل رمادها يؤجج روحي لسنوات طويلة.. هل أحمل هذه الأمنية إلى بوابة الحلم وأبعثها حية من الرماد..

يقوم صاحبي غاضبا يغادر الحجرة.. وأسمع صوته الغاضب:

- الغبي.. الأبله سيترك الفرصة الذهبية تفلت..

أتذكر زوجتي أمّ أولادي التي تنعتني دوماً بالغباء.. أنا أجلس بجانبها كل مساء أحلب العشب الأخضر في فمي.. أشعر بأبي يتقمصني أشعر بأنني سيد زماني. أجوب الآفاق بصمت ووقار وهي تجلس بجانبي تثرثر بصوتها العريض اللاذع الذي يمزق صمتي وجولاتي الدونكيشوتية.. وفي الصباح تصرخ في وجهي وتصفني بأنني غبي.. وهي تحلم بزوج غني.. مليونير.. فجأة شيء ما ينزلق في رأسي.. يضيء دهاليز ذهني ينير حيرتي.. ظلمات طريقي.. أقفز صارخاً:

- وجدتها.. وجدتها.

- ماذا وجدت ضالة أرشميدس.. يا غبي.. يأتي صاحبي مهرولاً إلى الغرفة.

- وجدت الأمنية.. أريد أن أكون مليونيراً.. مليونيراً.. رددت ببلاهة.. أحسست بخيبة أمل تلبسني وأنا أنظر في وجه صاحبي الصارم.. ينظر إلى الساعة أمامه.. استدرت بدوري رمقت الساعة.. كانت عقاربها تلتصق ببعضها.. أحسست بالنبض يتوقف في عروقي. يهرول صاحبي إلى كمبيوتره المحمول.. ويحرك بأنامله قرصه المصقول.. ثم يتركه ويفتش في أوراقه المغلفة بأحجبة وإشارات كنقوش إغريقية.. ثم ضرب بقبضته على الطاولة.. وقال:

-لا جدوى الآن.. أحسست بكلماته كرصاصات تصفع وجهي تصعق روحي.. وسألته بحزن: - لماذا لقد وجدت الأمنية..

-لا جدوى الآن.. لقد التأمت فسحة الزمن واختفت بوابة الحلم..

- ألن نجد فسحة أخرى.. أردت أن أكون مليونيرا لأغلق فم زوجتي بأكداس النقود حتى لا تصفني بالغباء لكنني حقاً كنت...

- بعد خمسين عاماً.. يقول صاحبي وهو يغلق باب معمله الفلكي خلفي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى