بلفقيه والصبابة ورحيل المحضار

> «الأيام» أنور سعيد الحوثري:

>
المحضار
المحضار
على الرغم من حلول الذكرى السابعة لرحيل فارس الشعر واللحن الجميل السيد الحبيب حسين بن أبي بكر المحضار التي تصادف اليوم الخامس من فبراير الجاري إلا أن الشريط الجديد لعام ألفين وسبعة للفنان الكبير أبوبكر سالم بلفقيه- الذي حمل عنوان «احتفل بالجرح»- جاء خالياً من أي أغنية محضارية بينما ضم الشريط سبعة أعمال كلها من ألحان أبو أصيل بما فيها الأغنية ذات اللحن التراثي «حان وقت اللقاء بين عاشق وحبان»، أما أغنية الغلاف- احتفل بالجرح- فهي من كلمات الشيخ خالد بن محفوظ الملقب الناصر، برغم أن أغنيات المحضار في كل دواوينه المطبوعة كثيرة جداً تنتظر من الفنان بلفقيه أن يقدمها بروعة صوته وجماليات التوزيع الموسيقي المعتاد في مثل هذه التسجيلات الخارجية ففيها روعة الشعر واللحن المعتق المرغوب خصوصاً وأن البلفقيه لم يطرق إلى يومنا هذا أبواب شعراء مقتدرين موجودين داخل الوطن اليمني ليسعفوه بنصوص تلامس شغاف قلبه وقلوب المستمعين في كل مكان ممن ينتظرون الجديد المستمر من فنانهم المحبوب أبو أصيل. وربما قام الفنان بلفقيه بتعويضنا نسبياً من خلال تضمين شريطه الجديد أغنية من كلمات شاعرنا الغنائي العاشق عبدالقادر الكاف الذي ينتمي مع بلفقيه إلى مدينة تريم الغناء، وهي اللفتة المستحقة التي منحها البلفقيه لشريك سلالته الكاف تقديراً لكفاءته المشهودة في وضع الكلمات الملحنة ذائعة الصيت التي سمع عنها القاصي والداني في داخل الوطن وخارجه، فلقد غنى للكاف الفنان الكويتي محمد البلوشي أغنية «الزمن غدار والحكمة تقول كل شي معقول» وغنى له الفنان السعودي عبدالمجيد عبدالله أغنية «أيش جابك من بلادك» ناهيك عن انتشار أغانيه بأصوات فناني حضرموت وعدن وغيرهما.

وقد جاءت أغنية عبدالقادر الكاف في شريط بلفقيه الجديد تحت عنوان «مغرم صبابة» ولم يلحنها الكاف بنفسه كما هي عادته ولم يستعن بالفنان المبدع حسن باحشوان في تلحينها بل وضع لحنها بلفقيه بأسلوبه التقليدي الذي اعتاده في أعماله الأخيرة، وقد افتتح الكاف أغنيته بقوله:

مغرم صبابة ياحبيبي هائم

والنفس لاهامت غدت مجنونه

أنت لقلبي كالربيع الدائم

وأيام عمري واشهره وسنينه

وهو مطلع تقليدي لا يختلف كثيراً عن أشعار الغرام والهيام، باستثناء استخدامه أسلوب التشبيه في قوله «أنت لقلبي كالربيع الدائم..» وربما تعنينا في هذا السياق مفردة «الصبابة» التي تعني شدة الوجد والوله، أما الـ «مغرم» فهو اسم الفاعل من الفعل أغرم بالشيء بمعنى أولع به، وتجدنا نقف عندها لأن استخدامها يشتكل على البعض منا فهل هي من الفعل «صبّ» أم «صبأ» وما علاقتها بالصابئة أولئك القوم الذين يزعمون أنهم على دين نبي الله نوح عليه السلام، وجاء ذكرهم بأنهم جنس من أهل الكتاب وقبلتهم من مهب الريح الشمال عند منتصف النهار.

قال الشاعر العلامة الراحل عبدالله محمد باحسن في أغنية «يشوقني برق» التي أبدع فيها الصوت المخملي محمد جمعة خان:

إذا لعلع البراق وهنًا من الحمى

صبا القلب وانهلت عليه المدامع

ولعلك تلاحظ - عزيزي القارئ - أن الشاعر الباحسن لم يستخدم الفعل (صبّ) ولم يستخدم الفعل (صبأ" ولكنه قال: صبأ - بإسكان الألف- وهو الفعل الذي اشتقت منه مسميات: الصبي والتصابي والصبا. وقد تزحلقنا مع مفردة «الصبابة» التي استخدمها الشاعر الكاف في أغنية «مغرم صبابة» إلى مواضع أخرى من شعر الأغنيات مثلما نجده عند الشاعر الأديب الراحل حسين محمد البار الذي أجاد استخدام مفردة «الصب» بدقة متناهية حين قال في أغنية جمعة خان:

امنحي الصب حناناً

منك ضمًا واحتضانا

واجعلي جيدك يغشيه

اذا الكاشح بانا

ونحن نسدل على مفردة الصبابة في لهجتنا العامية كثيراً من المعاني الجانبية فنقول: فلان فلان في صوته صبابة وذلك عند وصف صوت المغني وآلة العزف، ونعني بها روعة الأداء ومصداقيته وتأثيره وموهبته الفطرية وهي المعاني التي لا تخرج عن إطار الوله والشوق والعشق الصادق أو على حد تعبير عبدالقادر الكاف:«والنفس لا هامت غدت مجنونة» فهل صحيح أن الهيام يورث الجنون عند بعض العاشقين؟! نعم إن ذلك يحدث عند الشاعر الحبيب عبدالقادر الكاف الذي قال في أغنيته أيضاً:

سارت على عشقي مدن وتهائم

وقلوب حيرى ذائبة مشطونه

استلهمت منه حكم وعزائم

تشرح أساليب الهوى وفنونه

إنه المقطع الغنائي الأجمل في هذه الأغنية، فكيف لها أن تسير المدن والتهائم على عشق الشاعر الكاف وإلى جوارها القلوب العاشقة الحيرى المشطونة؟! وكيف استلهمت هذه المدن والقلوب الحكم والعزائم فتألقت في شرح أساليب الهوى وفنونه، إنه الشعر المتدفق من حنايا الشاعر الكاف، الأمر الذي غفر له السقوط في التكرار الممل في المقاطع الأخرى من هذه الأغنية وذلك في مثل قوله:

أبات طول الليل قاعد قائم

مشغول في شعري معك ولحونه

وانت على فرشك مريح نائم

واللي يحبك ما تنام اعيونه

أليس هذا القول صورة طبق الأصل من قول الشاعر:

ينام الذي قلبه من الحب خاليٌ

وقلبٌ كواه الحب كيف ينام

رغم أن الصحيح:«ينام الذي قلبه من الحب خال» لأن مفردة «خالي» اسم منقوص وجب حذف الياء منه وتعويضه بكسرتين لكونه مجرداً من الياء والإضافة ، وهذا المعنى نجده في كثير من أغنيات السهر «ساهر مع الليل وحداني»، «ناموا كلهم ناموا»، «نسهر الليل والعالم رقود» وغيرها كثير.

كما تردد العامة مفردات كثيرة أساسها الصبوة والصبابة نذكر منها ما نصف به صاحب الصبابة فنقوله عنه: مصباي - هذا بحسب نطق أهل شرق حضرموت- بينما يقول سكان المدن والأرياف الأخرى: صاوي أو مصوري، أي أن فلاناً به صبوة أو صويه، قال الشاعر المحضار بحسب لهجة أهل الشحر في أغنية «ياساري الليلة» التي وضع الفنان المرشدي لحنها الجميل:

ياساري الليلة لما سريت

هلا لهذا الأمر داعي

مالك اذا ما لاح بارق صويت

أشبه بملسوع الأفاعي

وقد استبدل بعض الفنانين ومن بينهم عبدالرحمن الحداد مفردة «صويت» بمفردة «بكيت» فقال في الأغنية ذاتها: مالك إذا ما لاح بارق بكيت، وذلك لأسباب تتعلق - ربما - بالوجاهة اللغوية أو ليفهمها المتذوقون خارج حدود حضرموت. على أن وصف «أشبه بملسوع الأفاعي» يعطي مؤشراً على ما أنجزته «الصويه» على ملامح الملتاع بها حين أصابته بشيء أشبه بلسعة الأفعي. وما أكثر سؤال الكثيرين عن فروق المعنى بلين اللدغة واللسعة، فاللسعة تخص العقرب ولكن الشاعر المحضار استخدامها للأفاعي «أشبه بملسوع الأفاعي» وذلك لغرض إظهار التأثير النسبي على المصاب بـ«الصويه» حيث كتمان الوجع من غير صياح ولا رعشة ولا اهتزاز، هو الصبر المكتوم العميق الحانق.

فهل نحن مغرمون صبابةً - مثل الشاعر الكاف - حين نحلق في فلك العشق لثنائية المحضار التي كانت ينبغي أن تستمر حتى بعد رحيل المحضار.. فهل اكتفى بلفقيه بأداء أغنية (الدنيا) في الشريط قبل الأخير وهي الأغنية التي عانى فيها من انتقاد النقاد على استبدال بعض المفردات بأخرى أقل فصاحة منها، وهذا ما سوف نتابع الحديث عنه في مقالة قادمة إن شاء الله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى