عشاق حضرموت

> ريم عبدالغني:

>
ريم عبدالغني
ريم عبدالغني
قبل مائة وستين عاما بدأ شاب ألماني مغامر رحلته في قلب الجنوب العربي متجها من ميناء المكلا إلى وادي حضرموت، وقد كابد مشاق كبيرة كاد بسببها أن يقتل إذ تنكر بزي عربي مسلم يرغب في زيارة قبر النبي هود عليه السلام، وبعد عودته إلى بلده لم يصدق معاصروه ما كتبه عن رحلته وخاصة وصفه مدينة شبام ذات المباني الطينية العالية «بشيكاغو الصحراء» فانطوى على نفسه واختفى عن العيان إلى أن مات، وفي عام 1870 أي بعد عشر سنوات من وفاته أثبتت الدراسات صحة ما أتى به (أدولف ريد) ونشر البارون فون مالتزان بعد ذلك قصة وخرائط ريد الذي وصف لاحقا بـ«المكتشف الأعظم لحضرموت».

ظل اليمن وخاصة حضرموت زمنا طويلا لغزا عصيا على الحل وعالما مجهولا يعسر اختراقه، ربما بسبب طبيعته القاسية التي تلقي على الرحالة أعباء جسدية وذهنية ثقيلة، وكذلك خصوصية ظروفه وعزلته السياسية.

وبالرغم من وجود مؤلفات لرحالة وجغرافيين عرب، تركوا في مؤلفاتهم وصفا للمدن اليمنية في مراحل مبكرة فإن اكتشاف الغرب لليمن جاء متأخرا، وكان اكتشاف حضرموت تحديدا بين نهاية القرن التاسع عشر والنصف الثاني من القرن العشرين، من خلال الرحالة والعلماء والمغامرين الذين عرف بعضهم حضرموت قبل أن يطأ أرضها عن طريق الجاليات الحضرمية التي تعيش في الهند وجزر الهند الشرقية (كإندونيسيا وسنغافورة) وبلدان شرق إفريقيا التي كان لها دور مهم في حياة شعوب تلك البلدان.

لكن الحافز الحقيقي للسفر والترحال لم يكن دائما اكتشاف هذه الأرض ومعرفة حياة سكانها وثقافتهم عن قرب فحسب، في أحيان كثيرة - إن لم يكن معظمها- كانت هناك دوافع سياسية، فالبلدان التي اهتمت باكتشاف اليمن منذ الرومان والإغريق وحتى هولندا والبرتغال والدانمرك وبريطانيا كانت تدرك أهميته الاستراتيجية والعسكرية، وكثير من المستكشفين كانوا في حقيقة الأمر عملاء سريين وللأسف تورط بعضهم في تهريب المخطوطات والآثار اليمنية.

وعرف من أوائل الأوروبيين الذين وصلوا حضرموت (في نهاية القرن السادس عشر الميلادي) الأب بيرو بييز الذي قام برحلة طويلة ابتدأها من ظفار ماراً بوادي حضرموت كأسير برتغالي في طريقه إلى الباشا التركي في صنعاء، وكذلك الأبوان (يانز) و(مونصرات) اللذان غرقت سفينتهما تجاه جزر (كوريا موريا) فوصلا الشواطئ الحضرمية ثم أجبرا على المسير وراء قافلة الجمال من الشحر إلى تريم وشبام، أما الألماني ليو هيرشر فقد شاهد مدن الوادي عام 1893 لكنه لم يمكث سوى بضع ساعات ثم أرغم على العودة من حيث أتى، ولم يكن البريطانيان جيمس تيودور بنت وزوجته- اللذان لم يسمح لهما أن يتعديا شبام - أوفر حظاً.

ومنذ ثلاثينات القرن العشرين كتب - بشكل أعمق- عدد ممن زاروا الوادي ومكثوا فيه، كالقنصل الهولندي في جدة (فان دير ميولن)، والمستشار السياسي البريطاني (هارولد انجرامس) والبريطانية (فريا ستارك)، وفي بداية الخمسينات الطبيبة الألمانية (ايفا هويك) والطبيبة الفرنسية (كلودي فايان) والألماني (هانس هليفرتز) و(جون فيليبي) واللائحة طويلة.. وهناك العديد من الكتب الرائعة التي كتبها مستشرقون ورحالة آخرون في وصف عالم حضرموت المدهش.. ما بدا آنذاك محض خيال.. ولكن القائمة للأسف لم تحو الكثير من الأسماء العربية، هل هو جهلنا بما لدينا.. وتقييمنا غير العادل لمقدراتنا؟.. أم هي عقدة الغرب التي توجه اهتماماتنا؟ أم أنه الزهد المرضي الذي يصيبنا تجاه ما نملك؟.. أم أن تراثنا الحضاري يغيب وراء الألفة والاعتياد.. فلا نستحضره إلا للدفاع عن صورتنا؟.. ككثيرين قبلي.. وقعت في غرام حضرموت بسحر عمارتها وعراقة حضارتها وتاريخها ورقي أهلها.. بكل ما فيها، فشغلتني عشر سنوات كاملة.. حتى متى ستبقى مستحوذة عليّ؟ لست أدري.. ما أعرفه أنها تحتلني ذلك الاحتلال المحبب الذي لا يريد سجينه انعتاقا منه.

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى