في الذكرى الـ(34) لرحيلها ..أم كلثوم ومشروع الأغنية الدينية

> مختار مقطري

>
أم كلثوم
أم كلثوم
رحلت سيدة الغناء العربي أم كلثوم عن دنيانا الفانية يوم الثالث من فبراير 1973م بعد خمسين عاماً من التفرد والتألق والتربع دون ند أو نظير على عرش الغناء العربي ومازالت ملكة هذا العرش إلى يومنا الحاضر وإلى أجيال قادمة، ولقد أسهمت أم كلثوم إسهاماً كبيراً في تطور الغناء والموسيقى العربية، وكان لها فضل السبق والريادة والعطاء الكبير في رقي الأغنية العربية بمضامينها المختلفة: الدينية والوطنية والعاطفية، وأسهمت أم كلثوم منفردة في الحفاظ على الغناء الديني بعد أن أوشك على الاندثار باحتضار الإنشاد الديني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وحولت الإنشاد الديني إلى مشروع فني كبير بدأت بتنفيذه في أعقاب الحرب العالمية الثانية بقصيدة (سلوا قلبي) لأحمد شوقي وتلحين رياض السنباطي، وانتهت من تنفيذ هذا المشروع في العام 1951م بغنائها لقصيدة (إلى عرفات الله) لشوقي والسنباطي، وهي القصيدة الرابعة ضمن مشروعها هذا بعد (سلوا قلبي) و(الهمزة النبوية) و(نهج البردة) وكلها أيضاً لشوقي والسنباطي، فوضعت الأساس و حددت الشكل الفني الحديث والمتطورة للأغنية الدينية بتحويلها الدين إلى موضوع فني إبداعي، وإحيائها للإنشاد الديني في أغنية دينية طربية، وكانت القرى والمدن الريفية بمصر منذ دخول القرن العشرين تعرف نوعين من الغناء: الغناء في الأعراس والمناسبات الاجتماعية ومواسم الحصاد، وهو غناء شعبي معبر عن روح الشعب وتفاعله مع الأنشطة المختلفة في الحياة يعتمد فيه المغني أو المطرب على حلاوة الصوت والتنغيم لإشباع قلوب المستمعين بالفرح والابتهاج مع توظيف للموسيقى وإن كان فقيراً ويسيراً.. أما النوع الثاني فهو غناء الأناشيد والتواشيح الدينية، وهو يعتمد على قوة الصوت وفخامة المفردات ويبلغ أقصى درجة تأثيره على المتلقي بأن يصغى إليه بوقار، ويصاغ في الألحان الصعبة، لكنه بعكس النوع الأول يشترط قدرة المنشد على التنغيم والإضافات الإبداعية التلقائية، والمنشد كان يطلق عليه لقب (صيّيت).

ولقد تشربت أم كلثوم فن الغناء من هذين النبعين منذ أن كانت طفلة في قرية (طماي الزهايرة)، وحين استقربها المقام في القاهرة رفضت أن تصبح مطربة فقط وأصرت على أن تكون مطربة وصيّتة معاً، لكن القاهرة ومنذ اندلاع الحرب العالمية الأولى صارت غارقة بالأغاني الخليعة والهابطة، وساعد انتشار المسرح الغنائي على انتشار هذه الموجة من الأغاني وبالتالي اختفى الغناء الطربي الأصيل إلا القليل لغياب المغني الموهوب والمطرب صاحب الموهبة الكبيرة، وبالتدريج نجحت أم كلثوم بموهبتها الكبيرة وصوتها العبقري وثقافتها الأدبية الواسعة وسلوكها القويم وحياتها المحافظة أن تحصر هذا النوع من الغناء الخليع والماجن في علب الليل وعوامات الأنس بعيداً عن الوسط الفني والمناخ الغنائي العام، وأحلت محله الغناء الراقي والأصيل وساعدها في تأدية رسالتها العظيمة هذه التفاف كبار الملحنين والشعراء الذين عثروا في صوتها المعجزة وثقافتها الواسعة على المؤدي والموصل الجيد لألحانهم وقصائدهم في شكل أغنية جميلة ترتقي بالذائقة العامة وتهذب المشاعر والوجدان، وهكذا أصبحت أم كلثوم مطربة كبيرة منذ النصف الثاني من عقد الثلاثينات تقريباً، لكنها لم تنس أبداً أنها تريد أن تكون (صييتة) ايضاً، غير أن انتشار المسرح الغنائي أدى إلى تغييب الإنشاد الديني الذي اختفى تقريباً بمجرد أن تحولت أم كلثوم إلى مطربة كبيرة، ولأنها فنانة عظيمة صممت أن تكون لها مشاريع فنية كبيرة لتساهم في تطوير وتحديث الغناء والموسيقى العربية، ومن هذه المشاريع مشروع الأغنية الدينية الطربية الذي جمعت فيه أم كلثوم بين المطربة وبين الصييتة، بين التطريب والتنغيم في الأداء وبين الوقار الفني والقصائد الجزلة والرصينة والفخمة لأحمد شوقي والألحان الصوفية العذبة والصعبة معاً لرياض السنباطي.

والتوقيت الذي اختارته أم كلثوم للبدء بتنفيذ مشروعها الفني الكبير في الأغنية الطربية لم يكن توقيت مصادفة أو توقيتاً مغامراً، فقد بدأت تنفيذ مشروعها بقصيدة (سلوا قلبي) في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أي في مرحلة كان فيها الشعب المصري والعربي بحاجة ماسة إلى الاستنهاض الوطني، مما يعني أن الدين والوطن عند أم كلثوم لا ينفصلان، وفي كل القصائد الدينية التي غنتها أم كلثوم وكان آخرها قصيدة (الثلاثية المقدسة) للشاعر صالح جودت في السبعينيات يجد المستمع ما هو وطني متداخل في ما هو ديني، والوطن عند أم كلثوم مصر ثم الوطن العربي كله، وكمثال.. غنت أم كلثوم هذه الأبيات من قصيدة (سلوا قلبي) والضمير فيها عائد للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:

وعلمنا بناء المجد حتى

أخذنا إمرة الأرض اغتصابا

وما نيل المطالب بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وما استعصى على قوم منال

إذا الإقدام كان لهم ركابا

وفي قصيدة (الثلاثية المقدسة) غنت أم كلثوم هذه الأبيات:

من مهبط الإسراء في المسجد

من حرم القدس الطهور الندي

اسمع في ركن الأسى مريماً

تهتف بالنجدة للسيد

وابصروا الاحجار مخروقة

تقول واقدساه وامعتدي

واشهدوا الاعداء قد أحرقوا

ركنا مشت فيه خطى أحمد

لا والضحى والليل إما سجى

وكل سيار به نهتدي

لن يطلع الفجر على ظالم

مستغرق في حقده الأسود

سترجع الأرض إلى أهلها

محفوفة بالنور والسؤدد

والمسجد الأقصى إلى ربه

مزدهيا بالركع والسجد

ستشرق الشمس على أمة

لغير وجه الله لم تسجد

رحم الله أم كلثوم ..!!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى