احتفاء بالذكرى الأربعين لاستشهاد مطرب لحج الأول فضل محمد اللحجي ..رأى القمندان في تلميذه فضل ما يمكن أن يخدم مشروعه الذي حلم به

> «الأيام» عبدالقادر أحمد قائد:

> بذل القمندان جهودا كبيرة ومحاولات متكررة أملا في تأسيس فرقة موسيقية يستطيع من خلالها إبراز ما يقوم به من تطوير وتجديد للأغاني اللحجية ونشرها بين أوساط الناس في المناسبات، وقد استمرت محاولاته هذه لأكثر من عشرين سنة حتى كاد أن ييأس من ذلك، وأخيرا وبعد مضي كل تلك السنوات وجد ما كان يبحث عنه فتجدد عنده الأمل والعزم في تأسيس الفرقة عندما علم أن الحاج محمد جبلي لديه ولد اسمه فضل، يعزف على العود ويمتاز بصوت جميل، وعندما أرسل القمندان يطلب حضور الوالد ليسأله عن حقيقة ما سمعه عن فضل ويعرض عليه أن يكون عنده مطربا تم له ما أراد، فقد وافق الحاج محمد جبلي على عرض القمندان، بعدها احتاج إلى عازفين آخرين فاستدعى مسعد أحمد حسين والإيقاعيين أولاد طفش حسن وفضل وكذا ضاربي الهواجر في الرقصات الشعبية مبارك سالم بانبيلة وعوض مبارك بانبيلة وجميعهم أعضاء في منتدى القمندان وكانوا قد سبقوا فضلاً إليه.

وفور وصول فضل ومسعد إلى منزل القمندان خضعا للعلاج، فقد كان فضل يعاني من التراخوما وذاك يعاني من الضعف والهزال إلى أن شفيا. وبعيدا عن التفاصيل والعلاقة غير المستقرة التي كانت سائدة بينه وبين معلمه بما فيها التمرد المستمر وإحساسه الدائم بأن معلمه كان يفضل زميله مسعد عليه.. دعونا نتعرف على الجانب الآخر في العلاقة التي رسمها القمندان وحرص على تطبيقها مع تلميذه فضل، ورأى أنها سوف تخدم مشروعه الذي حلم به وكرس حياته لتحقيقه، وهو تطوير وتجديد الأغنية اليمنية في لحج، من أجل ذلك أصدر أوامره بتخصيص غرفة خاصة به وأن لا يصل إليه أحد إلا إذا طلب هو ذلك، ثم وفر له من الاسطوانات الشيء الكثير وأكثرها ما يعزف على العود المنفرد إضافة إلى بعض الأغاني المصرية واليمنية التي كان دائم الاستماع إليها وحريصا على محاكاتها، الأمر الذي جعله يحفظ ويجيد عزف وغناء قوالب كثيرة في الغناء العربي وكذا عزف التقاسيم المختلفة على آلة العود وعلى مقامات متنوعة.

وهذه التقاسيم هي حركات وتنقلات وكذا إظهار مهارات في عزف كثير من المقامات التي لا يستطيع أحد إجادتها إلا إذا كان متمكنا ومسيطرا على العود وريشته، وهذا ما انعكس إيجابا في تطوير العزف عنده وجعله يتعرف على قوالب كثيرة في بناء الألحان والتعرف على المقامات الموسيقية المستخدمة في الموسيقى العربية، كل ذلك اختزنه في داخله وظل يستخدمه من حين إلى آخر في عملية تطوير الألحان التي كان يعهد إليه القمندان بوضع مقدمات لها وبتطويرها وتشذيبها، الأمر الذي كان يسر له معلمه ويجعله يثني عليه.

بعد وفاة القمندان استمر فضل في إحياء حفلات الزواج مع مجموعة من المطربين الناشئين آنذاك، وعلى رأسهم المطرب صالح يوسف الزبيدي وهادي سعد سالم وغيرهما من ضاربي الرق والإيقاع، وعاصر الكثيرين ممن كان يقابلهم في المخادر منهم الشيخ علي أبوبكر باشراحيل والمطرب علوي سعد والد المطرب فيصل علوي، وعوض عبدالله المسلمي ومحمد جمعة خان وعلي عوض الجراش وصالح العنتري وأحمد عبيد قعطبي وعمر محفوظ غابة ومحمد سعد الصنعاني ومحمد علي الدباشي، وقابل أيضا فرقة كويتية كانت تقيم حينها في مدينة الشيخ عثمان وآخرين.

وفي مرحلة لاحقة شهدت لحج حركة مسرحية في الأربعينات من القرن الماضي، حيث أُسست فرقتان للتمثيل هما الفرقة القومية وفرقة العروبة، وضمت هاتان الفرقتان عددا من أبناء لحج ما بين مخرج وممثل وملحن وعازف ومغن، وكان هو من بين من أسهموا في تلك النهضة المسرحية في ذلك الحين، فقد كان أحد الأعضاء المؤسسين للفرقة القومية للتمثيل الذين ساهموا بجهد كبير في إنجاح المسرحيات التي عرضت حينذاك ممثلا وملحنا ومغنيا بمشاركة الأستاذ الراحل عبدالكريم عطا، الذي كان يؤدي المقاطع الغنائية في المسرحيات، وكانت أول مسرحية ظهر فيها فضل مطربا وممثلا هي مسرحية (في سبيل التاج) التي قدمت على مسرح الفرقة القومية للتمثيل وكان دوره في تلك المسرحية دور جاسوس تركي يتجول متنكرا بصورة عازف على الكمان، وكان اللحن الاول لفضل هو نشيد (بلادنا نحبها) كلمات أحمد فضل القمندان، وقد اتخذته الفرقة نشيدا لفتح الستار في مقدمة كل مسرحية.

استمر نشاط فضل واستمرت معه عملية التطوير والتجديد والحفاظ على ما خلفه أستاذه وكانت ألحانه الجديدة تشكل منعطفا جديدا في تاريخ الأغنية اللحجية ولم تكن تمردا على مدرسة أستاذه بل امتدادا لها مع احتفاظها بالأصالة والانتماء.

رغم أن فضلاً لم ينقطع عن عملية الخلق والإبداع والعمل في إحياء حفلات الزواج والمخادر والالتقاء بعشاق فنه وإسعادهم.

إلا أن هذه الحفلات كانت متقطعة وموسمية ولا تفي بمحتاجات المطربين خلال السنة، لذا لم يدم حال فضل هكذا فقرر السفر بعد أن رهن منزله متوجها إلى الحجاز، وكان ذلك في عام 1947م، واستمر هناك يمارس مهنة الطرب والغناء غير أن مدة بقائه لم تدم طويلا فقد لاقى الكثير من المضايقات وعدم الاكتراث بفنه، ناهيك عن عدم انسجامه مع الحياة هناك فقرر العودة إلى بلاده وقبول شظف العيش مادام في ذلك كرامته وعزته، وكانت عودته عن طريق شمال الوطن مرورا بمدينة ماوية ومنها إلى مدينة المسيمير، عاصمة السلطنة الحوشبية آنذاك التي وصلها عام 1949م.

وعندما علم السلطان محمد بن سرور بمقدمه استدعاه وعرض عليه البقاء عنده بعد أن استحسن طربه وطيبة نفسه ودماثة خلقه، فبقي فضل في ضيافة محمد بن سرور، ومع مرور الوقت زاد تعلقه بتلك المدينة وبأهلها الذين تعايش معهم وغنى لهم في كل أفراحهم، ناهيك عن الطرب والغناء في ديوان السلطان، فقرر الزواج من إحدى نسائها بمعونة قدمها له محمد بن سرور.

في عام 1951م عاد فضل محمد إلى مسقط رأسه لحج وبعودته عادت الروح إلى الأغنية اللحجية بعد أن اختفت بوفاة القمندان وغيابه في الخارج.

وفي محطة أخرى من محطات حياته الفنية يستدعى للمشاركة في أول تشكيل فني تحت مسمى (الندوة اللحجية الموسيقية)، وكان من الداعين لتأسيسها الأمير عبده عبدالكريم، غير أن الندوة استمرت لفترة قصيرة أخفقت بعدها فقد تركها فضل كما تركها الآخرون. وفي عام 1957م أسس شاعرنا الكبير عبدالله هادي سبيت (ندوة الجنوب الموسيقية) من مجموعة من الفنانين والعازفين والمغنين التي بدأت بإحياء حفلات كان ريعها يذهب لصالح المجاهدين في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، وكان فضل أول من لبى دعوة الأستاذ سبيت لانضمامه إلى الندوة، وشارك في حفلات الجزائر التبرعية التي شهدتها لحج وعدن ودارسعد عازفا على الكمان الذي كان من أبرع العازفين عليه آنذاك.

وفي عام 1958م وبعد مغادرة ابن هادي إلى القاهرة أصيبت الندوة بالركود بعض الوقت، في وقت كانت الندوة اللحجية قد استأنفت نشاطها الفني حيث تولى قيادتها الفنان صلاح ناصر كرد وانضم إليها الفنان فضل محمد وأحمد يوسف الزبيدي وحسين محمد حسن ناجي، وفي أثناء وجود فضل في تلك الندوة كان قد ظهر في تلك الأيام الفنان الصغير آنذاك عبدالكريم توفيق، الذي حظي في بدايته الفنية بأغنيتين من تلحين فضل هما: (يقول لي الليل توب، ويلوموني يلوموني).

وللمرة الثانية لم تدم عضوية فضل محمد في الندوة اللحجية الموسيقية الثانية، فقد أعلن انسحابه منها معيدا استئنافه للنشاط الفني لندوة الجنوب الموسيقية التي أصبح قائدا لها.

للراحل فضل محمد دور كبير في تطوير الأغنية اللحجية مع مجموعة من أصحاب المدارس اللحنية الجديدة ما بعد مرحلة القمندان: عبدالله هادي سبيت، عبده عبدالكريم، محسن أحمد مهدي، محمد سعد الصنعاني، صلاح ناصر كرد، عبدالله محمد حنش، أحمد سالم مهيد، محمود علي السلامي، وغيرهم ممن لحقوا بهم وساروا على دربهم.

لقد أثرت هذه النخبة في الساحة الفنية وأرست القواعد والأصول الحديثة في البناء اللحني الجديد للأغنية في لحج الذي اعتمد على الأصالة وعلى غزارة ما حفظوه وقلدوه من ألحان مبنية على النغم السائد والمشهور بالدان اللحجي المتنوع في المقامية مثل دان يا طير كف النياح، ولحن يا مرحبا بالهاشمي، وأنواع أخرى من الدان، ليس هذا فحسب بل بحثت عن المواهب الشابة وشجعتها وتبنتها فنيا وقدمت لها الألحان الجميلة الخالدة، وبذلك استحقت بجدارة أن تكون الرائدة لمرحلة ما بعد القمندان.

لحن هيثم عوض: استخدم القمندان أسلوبا وقالبا جديدا لم يعرفه أحد من قبل في لحج عندما طلب من فضل محمد ومسعد أن يقوما بأداء هذه الأغنية، ووزع بينهما الأبيات وجعل أداءهما متداخلا بصورة فنية بديعة وهوما يسمى بالديالوج الذي هو عبارة عن محاورة بين اثنين ويراعى في تلحينه تمثيل الحالة أو الحالات التي يرمي إليها وضعه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على اطلاع القمندان على هذا الأسلوب من الأداء من خلال ما كان يسمعه من أعمال أغلب الظن أنها من الأعمال التي كانت تعرض في الأفلام العربية التي كانت سائدة آنذاك في عدن ومما اختزنته وحفظته ذاكرته من الألحان والأنغام العربية، فلحج ليست بعيدة عن عدن وما تتأثر به عدن تتأثر به لحج أيضا.

وهذه الأغنية سجلها الاثنان بين عامي 1347هـ -1348هـ على اسطوانات شركة (اوديون)، وهي مبنية على الجنس الأول من مقام البياتي وعلى إيقاع الشرح اللحجي الثقيل وعلى ميزان رباعي مقسوم.

أغنية (جمعت فنون الغزل): من كلمات الشاعر الأمير صالح مهدي ولحن فضل محمد، ويعد هذا اللحن نقلة جديدة ونوعية فهو قريب من طابع وقالب البناء اللحني في الغناء العربي الكلاسيكي (الموشحات)، فقد بناه على مقام الهزام الذي قلما استخدم في الألحان اللحجية فكان المذهب (المقطع الاول) في الأغنية مبنيا على الجنس الأول وهو (جنس هزام) ثم ينتقل إلى نسبة بياتي على النوى ليعود بعدها إلى درجة استقرار المقام أما في الكوبليه (المقطع الثاني) فيستخدم الجنس الثاني في مقام الهزام (جنس حجاز) ثم يعود إلى لحن المذهب عن طريق نسبة بياتي على النوى ليستقر في النهاية على درجة استقرار مقام الهزام.

أما الإيقاع فقد اختار أن يكون رباعيا فيمكن أن يكون مركحا أو وسطى، وعليه -في رأينا- فإن هذا اللحن وإن لم يلتزم بشروط البناء اللحني في الموشحات فإنه قد وضع على الطريقة اليمنية أو لنقل على الطريقة اللحجية تحديداً.

وفي محطة أخرى من محطات حياته الفنية شكل ثنائيا ناجحا مع الشاعر صالح نصيب الذي تقاسم معه أحلى أيام حياته ومرها، وقدما أعمالا خالدة قدمت لكثير من المواهب الشابة التي تبناها فضل آنذاك وكانت من ثمار جهوده ونشاطه في الندوات الموسيقية في لحج، ففي عام 1958م قدم للموهوبين الصغيرين مهدي درويش وعبدالكريم توفيق أربعة ألحان من كلمات نصيب، فغنى له مهدي درويش (ياللي تركت الدمع) من مقام الراست وجنس الحجاز وعلى إيقاع الزف أو الميحة، وغنى أيضا أغنية (يذكرني القمر خده) من مقام الراست وعلى إيقاع الشرح اللحجي الثقيل (سلطاني) على ميزان رباعي مقسوم.

أما عبدالكريم توفيق فقد غنى له أغنية (يقول لي الليل توب) المبنية على مقام الراست في المذهب، أما الكوبليه فمبني على جنس الحجاز على درجة الدوكاه في لحن البيت الذي يقول «قال يا ما ناس من قبلك شكت ظلم القلوب» ثم يعود إلى المقام الأساس (الراست) بعد أن يبقى على الدرجة الخامسة ويطيلها معلنا ومؤكدا عودته ومسلما من خلال البيت الذي يقول «ورد القلب بالآهات وزاد النوح والأنات/ واللوعة تقول لليل ذا نصحك ذنوب».

وهكذا يظل اللحن حتى نهايته ينتقل من مقام الراست إلى جنس الحجاز وعلى إيقاع الشرح اللحجي الثقيل وغنى أيضا (يلوموني يلوموني) المبنية على مقام الراست وعلى إيقاع الشرح اللحجي الثقيل.

كما قدم ألحانا أخرى لكثير من المواهب آنذاك مثل محمد صالح حمدون وصالح يوسف الزبيدي وعبدالله عوض شادي ومحمود محمد ناصر وعلي سعيد العودي وعبدالله محمد حنش وصالح باقويري وحسن عطا وكذا أيوب طارش.

في نهاية عام 1965م يقرر فضل السفر إلى شمال الوطن ويستقر في مدينة تعز متنقلا بين القرى للطرب والغناء والحصول على لقمة العيش، وهناك التقى الفنان الناشئ آنذاك أيوب طارش وأهدى له لحن (أحبك والدموع تشهد)، كما التقى الفنان المرحوم علي بن علي الآنسي الذي حفظ من من فضل انشودة (باسم هذا التراب) التي كتب كلماتها الشاعر صالح نصيب ولحنها الفنان حسن عطا.

في منتصف عام 1966م قرر السفر إلى صنعاء للمساهمة في تأسيس الفرقة الموسيقية التابعة للإذاعة، والتي ضمت عند تأسيسها كثيرا من المواهب من عازفين ومغنين، وكان دعمه للفرقة يتمثل في تدريب أفرادها على طرق وأساليب العزف والأداء والعمل معهم عازفا على العود والكمان وكذا مدهم وتعريفهم بكثير من الأغاني التراثية اليمنية. في أواخر عام 1966م عاد إلى تعز ومنها شد الرحال إلى لحج.

رحم الله الأمير الشاعر والمؤرخ والملحن القمندان أحمد فضل بن علي محسن العبدلي ورحم تلميذه فضل محمد جبلي (اللحجي) الذي ما ان عاد إلى لحج واستقر به المقام في عدن وتحديدا في مدينة المنصورة والتف حوله الفنانون والشعراء والأدباء وبدأ في نسج علاقات فنية واجتماعية معهم، حتى جاء المصير المحتوم وذلك بإطلاق الرصاص عليه في يوم الأحد الموافق 29 يناير 1967م ونقل على إثر تلك الحادثة إلى مستشفى الملكة (الجمهورية -حاليا) حيث مكث هناك دون رعاية وفي صباح الجمعة من العام نفسه نقل جثمانه إلى لحج ودفن في مقبرة زيد بالرباط بمدينة الحوطة.

أخيرا من الواجب علينا الترحم على روحي الفقيدين الأديبين أحمد صالح عيسى وصالح نصيب وطلب المغفرة لهما من الله سبحانه وتعالى والإشادة بدورهما في تخليد فضل محمد في كتاب:

(فضل محمد اللحجي .. حياته وفنه) هذا الدور الذي لا يقل عن دور القمندان في تخليد فضل وتخليد كلّ منهما الآخر، ولولا ذلك المرجع الهام لما تعرفنا على المراحل والمحطات الفنية ووقفنا على أدق التفاصيل في حياة الشهيد فضل محمد اللحجي، وهذا الذي يجب أن يحفظ في ذاكرة الأجيال القادمة.

أستاذ النظريات الموسيقية العامة

باحث ورئيس قسم الموسيقى بمعهد جميل غانم للفنون الجميلة

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى