مع الأيــام .. حرائق بغداد

> محمد سالم قطن:

>
محمد سالم قطن
محمد سالم قطن
رحم الله شاعرنا البدوي علي بن الجهم، كان أعرابياً خشن الطباع وحشي الشعر، فلما دخل بغداد، عاصمة الخلافة العباسية وأكبر مدن الدنيا في ذلك الزمن، واستقر له فيها العيش سكناً وحضراً، تغيرت به الأحوال وتحولت خشونته الموروثة إلى نعومة مكتسبة ولانت لغته حتى استطابت التشبيب والغزل، واحتفظ ديوان الشعر العربي لهذا الشاعر بقصيدته الغزلية الجميلة التي أنشدها في حضرة هذه المدينة الرائعة:

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
تلك هي بغداد مدينة السلام وعاصمة الحضارة، بناها المنصور وفي زمن حفيده الرشيد كانت تسمى مدينة النور، حاضنة العلم والعلماء وبيت الحكمة ومهوى الشعراء، كان الرشيد هارون، أمير المؤمنين، يبصر السحابة تهفو في السماء أعلى قصره المنيف، فيخاطبها مداعباً: أمطري حيث شئت.. فسيأتيني خراجك!!

رحماك يا تاريخ! هانت الدنيا على الله، ولو كانت تزن جناح بعوضة ما سقي الكافر منها شربة ماء، كيف يحدث كل هذا الدمار والخراب وتنتشر الحرائق في مدينة السلام!؟ هذه هي حكمة الله وقدرته البالغة، فلكل أجل كتاب!

في زمن شعوبي أغبر منذ تسعة قرون، كتب الله أن تحترق بغداد وتدمر على يد المغول وأعوانهم، ويجري الدم المهراق في ساحاتها، واليوم، وفي هذا الزمن الإمبريالي الأزعر، يشاء الله أن تحترق بغداد مرة أخرى وتدمر على يد المحافظين الجدد وأعوانهم، التاريخ يشهد على رغم تفاوت الأزمان واختلاف الغازين، أن أحصنة طروادة، أعوان الغزاة، هي الأحصنة ذاتها والأعوان أنفسهم، قديماً وحديثاً ورحماك يا تاريخ!

لم يعد لدينا، نحن عرب الزمن الرخو، ما نتقدم به عزاء لعلي بن الجهم. لم نتمكن حتى من مواساته، فالرصافة قد احترقت والجسر، بل كل الجسور، قد دكتها القنابل والصواريخ وقذائف اليورانيوم المنضب، وبيت الحكمة احترقت كنوزه واشتعلت فيه النيران بعد أن كان دهراً طويلاً مشعلاً منيراً بالعلم ومضيئاً بالمعرفة.

المفارقة في ما حل ويحل ببغداد هو ارتباطها الأزلي بالحرائق والنيران، فقد روى المؤرخون أن الخليفة أبا جعفر المنصور عندما شرع في بناء بغداد، أراد أن يعرف رسم المدينة، أي خريطتها قبل إنشائها، فأمر بأن تخط طرقها بالرماد وأن يوضع على تلك الخطوط كرات من القطن مبللة بالنفط وتشعل فيها النيران، ثم نظر إليها والنار مشتعلة فظهرت له خططها وأقسامها.

مفارقة غريبة تستدعي التأمل والاستغراق فيه، لقد بدأت فكرة بناء بغداد بإشعال النيران، وقبل قرون دمرت بإشعال النيران، وها هي اليوم تدمر أيضاً، بإشعال النيران... ولكن شتان بين النار الأولى والنارين الأخريين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى