في الحدود.. وجوهر الدول ومبرر وجودها

> غسان تويني:

>
غسان تويني
غسان تويني
بينما نشهد زمن طيّ مفهوم الدولة القومية، الذي نشأ في أوروبا (أوروبا التي تتوحّد الآن) نتيجة للحروب الدينية (التي انتهت بعد 301 سنة وتكرس النظام الأوروبي بل العالمي الذي خلّفته بعقد معاهدة وستفاليا عام 1648)، ثم الحروب النابوليونية التي وزع مؤتمر فيينا عام 1815 نتيجة لها أشلاء الامبراطورية الفرنسية على النظام الدولي الذي صار أساس أوروبا الحديثة... تلك التي تذوب الآن في الاتحاد الاوروبي الذي يمعن بعضنا القريب، بل "الشقيق" في تجاهل قوته وفاعليته!

بينما نشهد زمن طيّ مفهوم الدولة القومية في أوروبا والعالم، يمرّ الشرق الأوسط - وفي صدره العالم العربي، امتداداً الى دنيا الاسلام الآسيوية والأفريقية - يمرّ هذا الشرق بتحديات تاريخية أولها بالطبع أزمة الدولة العبرية "العنصرية - القومية" والتي كأنها ما زرعت في عالمنا الا لتفجّره... ثم، في العراق المتفجّر، تحدّي الدويلة الكردية، الكيان العنصري المماثل لاسرائيل وكأنه رجع الصدى لنزعتها، والذي قد يؤدي ترسيخه وتشريعه الى توسع إطار "مسألة رسم حدود" الشرق الأوسط الجديد، إلى دولٍ تظن نفسها آمنة راسخة في استقرارٍ انكفائي أو في استقرار توسعي (والنماذج كثيرة من تركيا الى شمال افريقيا والسودان، مروراً بسوريا طبعاً وسواها...).

حيال ذلك يطل بعض اللبنانيين بطرح السؤال الذي كان قد صار تقليدياً منذ الحرب: "أي لبنان نريد؟". والأجوبة بدأت تلقى في التداول السري والعلني، متفاوتة الجدية والواقعية و... الخلفيات.

****

ليس في نيّتنا في هذا المقال تناول كل الأزمات وأبعادها، ولا هو في متناولنا (ولا في مقدورنا) ان نلج سباق الخرائط "الجيو - سياسيو - ستراتيجية" خشية ان نبدو كأننا استطبنا الاستدراج الى لعبة لا نؤمن ببراعتها، وليس لنا منها ولا فيها دور ولا مصلحة.

حسبنا بعض الملاحظات الواقعية التي تفرضها وتفرض أولويتها مجريات الأحداث، متى وضعت في المنظار التاريخي.

نبدأ بالحديث عن حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي يشوب تهنئة الفلسطينيين بالنجاح في تكوينها ونيلها الثقة البرلمانية (أوَلا نحسدها؟) خوفنا من أن تنهار التجربة (التي للبنان مصلحة خاصة في نجاحها كسابقة يجب أن تظل نموذجاً يحتذى ومثالاً) لأن "الوحدة الوطنية" هذه يبدو انها كالجرح الذي "ختم على زغل".

والزغل هذا، الذي لا تزال معالجته ممكنة، هو اختلاف التوجه التكويني بين "ديمقراطية" الفتحاويين و"اسلامية" الحماسيين... علماً بأن "فتح"، في الأصل، كانت، على قولها بالوطنية الفلسطينية والقومية العربية، تستلهم الاسلام، ولم لا؟

****

أول ما يخطر في بالنا هو ان نحذّر الاخوان الفلسطينيين من الوقوع في "فخ الكلامية" العربي الذي صار معتاداً، أي أن ندخل في مناظرة بين النظريتين رغم اجتياز الحكومة امتحان الثقة، بل في سجال لا يمكن أن ينتهي الى غير تعميق الاختلاف وتأبيده ومسمرته في لوحة متحجرة.

المقاربة العملانية في نظرنا هي تجاهل عدم الاعتراف الاسرائيلي - الاميركي والتحفظات الاوروبية، والقفز الى أمام، بل الى فوق بما يجمع بين النظريتين. أي الى اعلان الدولة الفلسطينية واقامتها ولملمة اراضيها والاعترافات الدولية بها.

ومن الممكن اطلاق هذا النهج من الجواب العقلاني على مطالبة "المجتمع الدولي"(!!!) لحماس بالاعتراف باسرائيل، فنرد بالسؤال: وبأية اسرائيل تريدوننا ان نعترف؟ أبإسرائيل التي أنشأتها الأمم المتحدة ورسمت حدودها بقرار التقسيم عام 1947؟ أم بإسرائيل التي توسعت، نتيجة حرب 1967، فاحتلت ما احتلت من الاراضي التي كانت الأمم المتحدة تريدها قاعدة جغرافية للدولة الفلسطينية؟ أم أخيراً بإسرائيل العدوانية التي لا تزال تقيم المستوطنات على اراضٍ عربية مغتصبة ترفض الاعتراف بها حتى أقرب الدول الى اسرائيل "الاستعمارية" هذه؟

وجوابنا ينتهي الى رجاء: نحن نبحث في الاعتراف باسرائيل عندما تقرر اسرائيل حدودها نهائياً وتبطل ان تكون الدولة الوحيدة في العالم التي تخفي حدودها وكأنها سرّ عسكري!!!

****

... اذاً، في رأينا المتواضع، تعلن حكومة الوحدة الوطنية قيام الدولة الفلسطينية وتطلب الاعترافات الدولية بها، بدءاً بالجامعة العربية، فالدول الاسلامية، فدول "عدم الانحياز"، فأوروبا فأميركا الجنوبية فروسيا والصين واليابان والشرق الأقصى الخ....

وحجتنا الكبرى يمكن، بل يجب ان تكون ان هذه الدولة ديمقراطية، ومؤسساتها منتخبة وفقاً لدستور معروف، ومعترف به دولياً، وانها ليست عنصرية كالدولة "العبرية" (بموجب حرفية دستورها) بل منفتحة على كل الاحتمالات الديمقراطية التي قد تنشأ من استعادتها لأراضيها المحتلة وسكانها الأصليين الذين هجّروا قسراً ويجب ان يتمتعوا، هم على الأقل، بحق العودة الذي ينعم بمثله يهود تدّعي اسرائيل انهم "هاجروا" من ألف سنة ويزيد، وانهم مواطنون لمجرّد كونهم ينتمون الى الدين اليهودي.

ولا يخفى على أحد، ولا نخال فلسطينياً في حاجة الى غير فلسطيني لكي يقول كم تكون جذّابة الدولة الفلسطينية الهذه تطلعاتها في مواجهة اسرائيل العدوانية الاغتصابية، الغارقة الآن بالذات في التحقيقات والمحاكمات، فضلاً عن الأزمات العميقة الأخرى التي تهز مجتمعها السياسي المصطنع، حتى الجذور.

****

ماذا يعنينا لبنانياً من هذا الموضوع؟

ان اعلان الدولة الفلسطينية وما يستتبع هو الخطوة الاولى لمعالجة ملف المخيمات وما تتيحه هذه من نشوء منظمات تدّعي كلها انها هي المؤتمنة، برسالة ربما تراها سماوية "من الله"، على تحرير فلسطين، انطلاقاً، مثلاً، من شمال لبنان ناهيك بجنوبه وضواحي مدائنه الكبرى!!!

واذذاك يصير في وسع لبنان، و"حكومة الاتحاد الوطني" (التي لا نزال نرجو ان تصير ممكنة)، أن يطالب الحكومة الفلسطينية "الشقيقة" بممارسة سلطاتها وفرض شرائعها على فصائل تدّعي انها لا تخضع الا لمحاكم تطبّق الشريعة الالهية (وكأنها هي وحدها المؤتمنة عليها بارهابها الحرام وجهادها الزائف) ولا تصح حتى دعوتها للخضوع للشرعية الدولية، لأن هذه هي "شرعية الكفّار")!!!

وحدها مثل هذه الرسالة الفلسطينية الديمقراطية تعيد الى القضية الفلسطينية "مقدسيتها" التي بها، لا بالارتباط بنووية فارسية (أو "فاطمية" لا تزال وهمية) قوة وصدقية دولية تغلّبها تدريجاً على الغطرسة الاسرائيلية المريضة بنظرتها العنصرية التي لا يقدر المجتمع الدولي، اذا نحن احسنا احراجه، الا على رفضها.

****

وتنسحب هذه المقارنة على لبنان الذي كان الشيخ امين الجميّل آخر من نادى باعطاء رسالته الانسانية كدولة ترفض العنصريات والعصبيات الدينية، متجاوزاً حصر البحث عن الحلول في "الحسابيات" السطحية، مطالباً بأن نتوجه الى الأمم المتحدة لتقييم حصانة خاصة للبنانٍ بحيث يكون هو، دون سواه في العالم، "الدولة - المختبر" للتعايش بين الطوائف والأديان، وتحويل صراع الحضارات الى حوار ثقافات في اطارٍ سلمي مضمون بل محمي دولياً.. ذلك يجب ان يكون مستوى البحث في الجوهر، جوهر الدول ومبررات وجودها... لأن استقلال لبنان وسيادته لن تفرض احترامها عالمياً وانسانياً لا كيلومتراته القليلة ولا حدوده التي لم تعد ضرورة ستراتيجية لأحد، بل هي رسالته الحضارية ووفاق شعبه على بلورة هذه الرسالة وجوهرتها بما يجمع بين الأديان لا ما يفرّقها قبائل متوحشة تتقاتل على الله، مدعية احتكار حق نصرته والانتصار باسمه!

عن «النهار» اللبنانية 19 مارس 2007

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى