في القمة... الكلمة في جوهرها فعل

> كلوفيس مقصود:

>
كلوفيس مقصود
كلوفيس مقصود
تساءلنا عشية انعقاد القمة في الرياض "هل تستطيع القمة احتواء النقمة؟". صار ممكنا، بل واجبا ان ما تم في القمة لم يحتو النقمة العارمة التي كانت تسود الحالة الشعبية بل ان القمة هذه المرة تنال الرضى للمرة الاولى منذ زمن طويل طويل. والرضى ليس بالضرورة التطابق بل انه ينطوي على تصميم لدعم وتأييد ما انتجته القمة من قرارات اتسمت بالوضوح وبخروجها من وقيعة الواقعية المتهورة الى فضاء واقعية متجددة. وكان رئيس القمة العاهل السعودي في خطابه الافتتاحي لخص المعاناة ونفذ الى مسببات النقمة والاحباط واثبت انه مشارك مما شكل وعدا لوطنه العربي الكبير بان الكلمة العربية سوف تتحول فعلا. كانت كلمة الملك عبدالله شجاعة من دون تشنج، صادقة في مبتغاها، مرنة في ما تعمل على ابلاغه، واضحة من دون استفزاز. بمعنى آخر اعاد الملك في كلمته تعريفا دقيقا للاعتدال كونه عقلانية في خدمة العدل لا استمرارا للانتقاص من صيرورته. هذا المنحى مكّن الاعتدال الجديد من ان يكون مقبولا، على الاقل مرحليا، وتاليا ان يجعل من صنفتهم الوزيرة كوندوليزا رايس "متطرفين"، مصرين على الحق، فتم التلاحم المرشح لتمتين الوحدة القومية من جهة، وجعل التصنيف الاميركي جهلا - او تجاهلا - للحقائق العربية وتاليا اخراجه من امكان فرض مقاييسه على الاولويات القومية للامة، من جهة اخرى. هذا في ذاته انجاز مطلوبة رعايته، ومطلوب تاليا ضمان استدامة مفاعيله واخراج التعامل العربي - الاميركي من ثنائية التبعية المذلة وافتعال مواجهات متهورة اضافة الى مزيد من المحاور داخل الحالة العربية التي تؤول بدورها الى ثنائية ضارة بين الانتقاص من الحقوق والمزايدة المكتفية باعلان الموقف من دون تحديد شروط وخطوات لطريق صيرورة الحقوق. فالانتقاص من الحقوق اذا استمر يؤول الى الغاء الحقوق. كما ان المزايدة اذا استمرت تؤول بدورها الى اهدارهما. لذا المطلوب مرحليا معرفة دقيقة لامكاناتنا كي يتم توظيفها وتاليا درس حدودها حتى توظيفها بحيث تكون مسيرة العمل مثمرة ولا تكون هناك فجوة بين ما نقول وما نفعل. الاهم في هذه المرحلة المعقدة والصعبة ان نتجنب اعطاء آمال مغلوطة من جهة، وانجاز توقعات، وحتى اختراقات صارت في حيز الممكن بعدما بدت مستحيلة.

****
لعل اول التحديات التي قد تواجه تفعيل المبادرة السعودية والتي اعيد التصميم على انجاز بنودها في قمة الرياض، هو اصرار ملتزم لكونها الصيغة النهائية والحاسمة لانهاء الصراع ومتطابقة مع مستلزمات الشرعية الدولية، وكونها تاليا تشكل تسوية مقبولة تنطوي على تقليص الغبن الذي لحق بالشعب الفلسطيني على حساب الغبن التاريخي الذي سوف تستمر الذاكرة التاريخية والجماعية للفلسطينيين تعانيه. لذلك فان جعل هذه المبادرة العربية التي تبنتها القمة نقطة بداية لمفاوضات مقبلة من شأنه ان يعيدنا الى المربع الاول الذي افرز كل الاتفاقات، من اوسلو الى خرائط الطريق والى ما كاد يتحول عار الحرب الاهلية، وكلها كانت هادرة لحيوية المقاومة واستقامة السلطة ثم سلبية "الرباعية" وعبثيتها وتهميش الامم المتحدة ومؤسساتها، اضافة الى تعطيل معظم قراراتها ان لم تكن جميعها. لذا فانه في غاية الاهمية ان نحدد بداية موقع قرار تبني المبادرة العربية بدل تحويلها، وتاليا تآكل نجاعتها من خلال جعلها إحدى المرجعيات للحل. وهذا يعني انها هي مرجعية الحل لكونها تختزل ما عبرت عنه قرارات الامم المتحدة منذ بداية الصراع العربي - الاسرائيلي.. هذا الموقف، وتمكين المبادرة من انجاز ما ترمي اليه يحتمان على الديبلوماسية العربية الموكول اليها ادارة تفعيل مواد هذه المبادرة، الاسراع في اخراج الامين العام للامم التحدة من "الرباعية" كي يستعيد دوره مؤتمنا على القرارات ذات الصلة بالحقوق الفلسطينية. نكرر ان السبب المباشر والاخير لهذا الطلب والذي يدفعنا الى الالحاح عليه هو قرارا الرباعية مقاطعة حكومة "حماس" الاولى ومعاقبتها وهي التي جاءت عقب انتخابات شفافة ونزيهة. قد نفهم ان الدول في الرباعية لديها اجتهاد في هذا الشأن، فكيف يجيز الامين العام - السابق والحالي - لنفسهما ان يستمرا في هذه الرباعية وبعض سياستها - او بالاحرى معظمها - مناقضة لمفهوم الامم المتحدة في ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني.

كذلك على ادارة الديبلوماسية العربية ان ترفض رفضا قاطعا اقتراح وزيرة الخارجية الاميركية في جولتها الاخيرة صيغة الرباعية مع "الرباعية العربية" ثم اسرائيل وفلسطين. وهذا يعني بدوره شطب مخزون بالغ الاهمية نظرا الى ما يمثله المغرب العربي الكبير من قدرة وقوة لضمان مناعة المبادرة واستعداد، مع رصيد دولي للاسراع في خطوات نحو الانجاز وتاليا تحقيق اهداف المبادرة كاملة.

وهذا يفترض ان تكون الديبلوماسية العربية شاملة قدر الامكان، خصوصا ان الولايات المتحدة، او بالاحرى ادارة بوش، اوحت الى دول المغرب وطالبتها بعدم الانخراط المباشر في "مسيرات السلام" التي تقودها من خلال الرباعية وتستند الى ان اسرائيل لا تقبل - او بالاحرى ترفض - اية محاولة للضغط من اية جهة، واذا تساهلت فمن الادارة الاميركية وحدها. هذا الانطباع الذي كان طاغيا ساهمت قمة الرياض في وضع حد له ويتحتم على الديبلوماسية المنبثقة منها التصدي لهذا الانطباع الذي عملت على تعويمه مقولة ان "99 في المئة من الاوراق هي في يد الاولايات المتحدة".

****
نشير الى هذا الانطباع السائد وبالاخص الى خطورته كونه انتج سياسات حتى لدى من كانوا في عداد المؤيدين لحقوق العرب والملتزمين بها، ولحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. واشير هنا الى انه في زيارتي الاخيرة للهند لاحظت بروز مدرسة تحاول تسويق سياسة تتلخص في ان نمو العلاقات في مجالات التسلح بين الهند واسرائيل لا يؤثر مطلقا على المواقف السياسية المعلنة تاريخيا والمؤيدة حاليا للمواقف العربية وخصوصا في ما يتعلق بالشأن الفلسطيني. ولو اكتفى الموقف الهندي باعلان هذه السياسة، لكنا ارجعناها الى ان الهند لن تكون ملكية اكثر من الملك. ولكن جاء مزيد من التوضيح الهندي بالاقتراح الذي يقول ان نمو العلاقات الاستراتيجية العسكرية مع اسرائيل قد يمكّن الهند من دفع اسرائيل الى مزيد من الاستجابة لحقوق الفلسطينيين. وقد ذكرني هذا المنطق باصداء الموقف التركي بان العلاقات النامية بين تركيا واسرائيل قد تجعل الضغط التركي على اسرائيل اكثر قبولا وخصوصا عندما يرتبط ذلك بمناورات مشتركة بين تركيا والاردن واسرائيل. ليس هناك مجال لسرد اسانيد التفنيد ولكن ما اكتفي بالاشارة اليه هو ان مواقف وتبريرات كهذه من دول صديقة كالهند وتركيا قد تشكل ثغر تستنزف صدقية التماسك الديبلوماسي - والاعلامي - العربي في تحركه دوليا وتاليا ضرورة التهيؤ لمثل هذا الاحتمال والاعداد المسبق لتداعياته.

****
لعل التحدي الاكبر لنجاعة الديبلوماسية العربية المنبثقة من قمة الرياض ونجاحها، يكمن في كون بقاء الازمات عالقة على رغم اجواء القمة الرحبة، قد يساهم في الاسراع في حلها. وفي طليعة هذه الازمات العالقة ازمة لبنان في شقي حكومة الوحدة الوطنية والتوافق على صيغة المحكمة. وعندئذ لا يعود الثلث الضامن شرطا مسبقا كون التفاهم يفترض ان يعيد ثقة غابت نتيجة الالتباس في موضوع المحكمة. ويجب الاسراع في استقامة العلاقات السورية - اللبنانية، حتى لا يبقى عدم الاستقامة مدخلا لحرف الديبلوماسية العربية عن كونها واحدة والتي من دون وحدتها الجدية تعم اضرار الفرقة وتساهم في التفريط بهيبة ما انتجته قمة الرياض.

في هذا المجال يشكل اتفاق مكة السابقة المنهجية التي تؤهل ديبلوماسية القمة العربية لانتزاع الاحترام ممن يستهينون بحقوق الامة وخصوصا الذين تعودوا استباحة هذه الحقوق بدل الديبلوماسيات التي مارسها بعض العرب والتي جعلت "الطبطبة" على الاكتاف دليل النجاح وتعريفا لـ"الواقعية" فاذا تمكنت ديبلوماسية القمة ان تعمم منهج اتفاق مكة في تعاملها مع الغير يمكن عندئذ زرع بذور عودة جسور الثقة والالتزام المتبادل بحيث، كما اشار العاهل السعودي، يكون علم العروبة وحده هو عنوان الهوية ووحدة المصير.

واذا تمكنت ديبلوماسية القمة من ان تجعل بنود المبادرة واقعية جديدة، فانها تكسب نفسها اهلية التعامل فورا مع الازمات العالقة في العراق ودارفور والصومال، وهذا ليس من قبيل التمني بل هو تعريف لما يجب ان تكونه الديبلوماسية القومية.

****
عندما صرح ايهود اولمرت بانه لن يسمح "لفلسطيني لاجئ واحد بالعودة" واردفها بـ Full Stop، اي نقطة، فانه بهذه الصفاقة قد لخص اهداف المشروع العنصري للصهيونية وكأنه من خلال غرور الموقف يعوض هزالة ادائه وما الحقته المقاومة اللبنانية من دحر للاستكبار الاسرائيلي وردع مكلف لامكانات الدولة العبرية في العدوان والتمرد والتهويد والتجرؤ على استباحة الحق. من هذا المنظور، على ديبلوماسية القمة ان يرافقها، الى ايصال الحقائق، تفنيد امعان اسرائيل في التزوير للتاريخ وللوقائع وما تقوم به من ممارسات بما فيها رفض قاطع لحق العودة، والسلوك في القدس والاراضي المحتلة وكأن لها حق الملكية وغيرها من عمليات الابتزاز لمن ينتقدها كونها معفاة من المساءلة ناهيك بالمعاقبة وتسويق جرائمها ضد الانسانية كأنها "ضرورات دفاعية"، وتصوير القرارات الدولية بالنسبة الى حقوق الشعب الفلسطيني، على انها "ضغوط خانقة على امنها"، وكون امعانها في اجهاض حق العودة تهديدا لبقائها، وان قيامها كدولة يجيز لها ما تدعي انه سبب وجودها - اي المحرقة وسياسات اللاسامية - في حق الشعب الفلسطيني. على ما مارست ضد يهود الغرب والشرق الاوروبي، كما ان المحرقة التي حصلت تسمح لاسرائيل بالقيام بمحرقة بالتقسيط للفلسطينيين ولعل الـFull Stop بعدم السماح لاي لاجئ بالعودة هي ان اسرائيل تريد ان تكون وان تصير الكيان الذي يبرر اغتصابها حتى لما تخطى حدود التقسيم وانكار احتلالها لما تبقى من فلسطين بعد حزيران 67.

اذاً، ان ديبلوماسية القمة يجب ان ترافقها حملة تثقيف ناشطة حتى تأتي المبادرة وقرارات القمة بنتائجها المطلوبة، والمرغوب فيها ايضا.

****
كان خطاب خادم الحرمين الشريفين في افتتاح القمة بمثابة تعبير عن مقولة "طفح الكيل". وكان مفاجأة سارة كونه اكد ان قبول الاولويات القومية للعرب يشكل تعريفا للصداقة بما تنطوي عليه من ندية ووضوح في العلاقة وصداقة تزيد دفئا بقدر احترام هذه الاولويات وفهمها.

في نهاية الامر للمرة الاولى سنشعر نحن العرب ان الكلمة هي في جوهرها فعل... وتاليا علينا الحرص على حرمتها وصدقها.

ü المدير السابق لمكتب الجامعة العربية بواشنطن

عن «النهار» اللبنانية 3 أبريل2007

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى