أكلة اللحوم والأعشاب البرية

> د. عبده يحيى الدباني:

>
د. عبده يحيى الدباني
د. عبده يحيى الدباني
قديماً قيل إن الإنسان يأكل ليعيش ولا يعيش ليأكل، وتبعاً لهذا فالإنسان يلبس ويسكن ويتزوج حتى تدور عجلة الحياة، ولا يحيا من أجل المأكل والمشرب والمسكن والملبس والزواج، فهذه كلها وسائل وليست غايات، وسائل إلى غاية أعظم وأشرف وأبقى تتجسد في قوله تعالى {وما خَلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون} والعبادة مسألة واسعة النطاق ولا تقتصر على شعائر دينية بحتة يومية أو أسبوعية أو موسمية، وهي اعتقاد وسلوك لا يستقيم أحدهما إلا بالآخر أي إيمان وعمل يدخل فيهما بناء الأوطان والشعوب والتضحية في سبيلهما ونشر العلم والثقافة وتعزيز الحضارة والمدنية والتحلي بالتوسط والاعتدال والرفق وعدم خلط الوسائل بالغايات.

إن الذي دعاني إلى هذا الحديث المنطلق من الثقافة الإسلامية ـ وهي ثقافة إنسانية فطرية عقلانية بامتيازـ هو ما أراه لدى أناس كثيرين في بلادي لا هم لهم إلا أن يأكلوا أشهى المأكولات ويشربوا ألذ المشروبات إلى حد الإسراف ويركبوا أحدث الموديلات ويعلقوا على أحزمتهم آخر أنواع (الموبايلات) ويتعاطوا أغلى أنواع القات، بحيث يصبح كل هذا العبث هو الغاية من حياتهم، وهو المسيطر عليها المتفشي فيها على حساب الأهداف والمضامين الأخلاقية والدينية والوطنية والاجتماعية والاقتصادية، وعلى حساب محاذير وقواعد صحية وتربوية. أجل إن كل ما يحدث من عبث واستهلاك متطرف وتهافت مريض على وسائل العيش الفانية بما فيها غير الضرورية يأتي في وضع يعاني فيه الكثيرون من أبناء الشعب فقراً مدقعاً وفاقة ملحة وتشرداً وبؤساً يندى لها الجبين وتنزف لها العين، والعجيب أنك ترى اللوحتين معاً جنباً إلى جنب في لوحة واحدة أحياناً وذلك عند المطاعم الراقية مثلا فترى علامات الشبع والتخمة والترف وترى الحاجة والبؤس والدروشة والشحاذة، وترى ذلك في (العزائم) الكبيرة حين يطرد منها الشُّعث الغُبر ويدخل فيها أصحاب الكروش من المدعوين، ولكن ما توارى وراء الجدران أو الصفيح من فاقة ومعاناة لهو أشد وأعظم. كل يوم ..كل يوم (لحم)، كل يوم (قات مطول).. يومياً كروت تعبأ ومكالمات ورسائل صادرة وواردة ليست في أكثرها إلا مضيعة للوقت وإهداراً للمال ومجلبة للذنوب وخراباً للقلوب وإيذاء للآخرين، ولعل ما خفي كان أعظم!!. نحن لا نحسد هؤلاء على ما هم فيه من عبث وتهافت وغفلة، ولكننا نشفق عليهم إلى حد التقزز، فما لهذا خلق الإنسان وليست هذه رسالته الخالدة في الأرض وما بهذا السلوك تبنى الشعوب والأوطان والحضارات، بل إن هذا السلوك ينطوي على هدم للثقافة الوطنية والقومية والدينية والفطرية السليمة.

والمثير للخوف حقاً أن الكثير من محدودي الدخل ومتوسطيه يسلكون هذا السلوك العابث لأنه صار نمطاً ثقافياً شائعاً، فتجدهم على حالهم يهدرون أموالهم القليلة في تقليد أولئك العابثين من الأغنياء، فقد يشتري أحدهم قاتاً غالياً أو هاتفاً باهظ الثمن في حين أن قيمة كل هذا (دَين) في رقبته وقد يزج أحدهم بماله القليل جراء وجبة في مطعم فاخر بينما أطفاله في البيت يتضورون جوعاً .. وقس على هذا الكثير من السلوك المنحرف والمظاهر المجنونة. إن الذي يكفي الإنسان من وسائل العيش ينبغي أن يغنيه كما قال الزهاد .. فإذا كان الذي يكفيه لا يغنيه ويملأ عينيه فإنه لن يجد شيئاً يغنيه ويقر عينه أبداً، ألم نتعلم في مدرسة الإسلام الخالدة {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} و{إن خير الزاد التقوى} وأن التكافل والتراحم وإعطاء الصدقات وإطعام الطعام على حبّه هو مما أمر الله تعالى به.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى