لغة الإعلام.. بين الفصحى والعامية

> أحمد زين باحميد:

> مرت لغة الإعلام بمراحل شهدت جهوداً حثيثة في تشذيب لغة الصحافة وصقل أساليبها لتغدو سهلة وواضحة,وقد كان للأجيال الأولى من كتاب الصحافة دور فاعل في تخليصها من الزخرف اللفظي ومحاكاة الكتابات الإبداعية كالقصة والرواية. لكن الإعلام العربي مازال بعيداً عن تبني (لغة إعلامية) تجسد أساليب التعبير والصياغة والتحرير.

واللغة عموماً تعكس التطور الثقافي والاجتماعي والسياسي.

ولغة الصحافة التي هي اللغة المكتوبة كما هو معروف وليست المنطوقة أو العامية و الدارجة ولأن الصحافة عامة تسعى للوصول إلى أوسع قطاعات المجتمع لابد للغتها من أن تكون لغة قادرة على التوصيل ونقل الرسالة المتوخاة.

والنثر الصحفي الذي يعتبر إضافة جديدة إلى أنواع النثر الثلاثة المعروفة وهي النثر الفني والعلمي والعادي، يتميز بالمفردات القصيرة والعبارات السهلة مع تجنب الألفاظ الغريبة والإغراق في المصطلحات العامية قدر الإمكان.

كما أن تطور لغة الصحافة لم يكن أحادي الجانب بل أن اللغة العربية نفسها قد استفادت كثيراً من الصحافة في مجال الترجمة والتعريب واختراع المصطلحات وتوليد معان جديدة.

واللغة العربية والمعاصرة مدينة للغة الصحافة بما تتمتع الآن من مرونة ويسر (1).

ويظن بعضهم بل ويجادل أن الانتشار غير المحدود لوسائل الإعلام يفرض على هذه الوسائل الاعتماد على العامية حتى تصل إلى الجميع ويدعمون حجتهم هذه بأن وسائل الإعلام التي انبعث فيها الصوت الإنساني بعد دهور طويلة من الإعلام الجماهيري الصامت والتي أصبحت فيها الصورة المتحركة مقرونة بالصوت والإشارة واخترقت حدود المكان وأزالت حاجز الزمان قد شكلت لنفسها جمهوراً يحوي شرائح أمية وشبه أمية الأمر الذي جعل الفصحى تشكل حائلا اصطلاحيا وتواصليا لا يمكن تجاوزه إلا بالاستناد إلى العامية التي تضفى في زعمهم على العملية الإعلامية المسموعة والمرئية وضوحاً وفعالية تحقق الأهداف المرجوة للإعلام الجماهيري.

لكن هذا الزعم لا يصمد أمام ما تتمتع به اللغة العربية من خصائص وسمات تجعلها قادرة على تخطي العامية بسهولة، يضاف إلى ذلك أن عصر الفضائيات قد أوجب على القنوات الفضائية لكي تصل إلى كل بلد عربي أن تعتمد اللغة الفصحى أو اللغة الإعلامية السليمة لأن استخدام عامية هذا القطر يحجبها عن الناس في ذاك القطر لاختلاف عاميته عن العامية الأخرى.

يقول الأستاذ عباس محمود العقاد (والعامية هي لغة الجهل وليست بلغة الثقافة أو بلغة اليسار وبين الأغنياء كثيرون لا يحسنون الكلام بغير العامية التي لا جمال لها ولا طلاوة وبين الفقراء من يحسنون التعبير بالفصحى أو يعبرون بالعامية تعبيراً يزينه جمالها وتبدو عليه طلاوتها فإذا عطفنا على العامية فإننا نعطف على الجهل ونستبقيه ونستزيده ولا نخفض وطأة الفقر ذرة واحدة بتغليب عبارة الجهالة على العبارات التي تصاغ بها آراء المتعلمين والمهذبين).

ولقد تميزت اللغة العربية منذ نشأتها بقوة الفصحى وقوة الفصحى سببها أن العربية تتسم بالفطرية والأصالة وأن نضوج العربية تساوق مع هاتين السمتين وعندما استخدم الشعراء اللغة العربية وجدوا فيها من الجدية والرصانة والوضوح والمرونة ما يجعلها قادرة على التعبير عن مختلف الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية.وشكل الشعر العربي أداة إعلام متطور تمت صياغته بلغة عربية ناضجة. يقول ابن سلام في طبقاته (كان الشعر في الجاهلية عن العربي ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون. كان الشعر علم قوم لم يكن له علم أصح منه).وعلى صعيد النثر الجاهلي برزت اللغة العربية بقدرتها البالغة على الإحاطة بما يجول بأذهان الخطباء على الرغم من الأقوال التي تشير إلى أولوية الشعر على النثر وأن الشاعر في الجاهلية كان يقدم على الخطيب لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يعيد عليهم مآثرهم ويفخم من شأنهم ويهول على عدوهم ومن غزاهم.ولو لم تكن اللغة العربية في مرحلة نضوج تام لما استطاعت أن تحمل المعجزة القرآنية إذ لا قرين للقرآن الكريم في عظم بيانه وبلاغته ولا مثيل له في عمق معانيه وقوة حجته ودقة ألفاظه ومجال صوره.

يقول الله سبحانه وتعالى:{قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضهم ظهيراً}.

ونستطيع القول هنا إن القران الكريم هو الإعجاز الإعلامي بكل معانيه وأشكاله كما أن الحديث النبوي الشريف قد أكمل هذا الإعجاز وارتفعت اللغة النثرية فكراً وفناً في العصر الإسلامي الأول.

والقرآن الكريم عمل على توحيد اللهجات العربية وأغنى اللغة القرشية معنى ولفظاً وأسلوباً وحقق للإعلام نهضة فكرية وفنية ممتدة الآفاق.وفي عصور الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين استمرت اللغة في الارتقاء على صعيد الإعلام الخطابي والرسائل السياسية والمناظرات الكلامية واستطاعت أن تشمل اللغات الأجنبية بحركة الترجمة الواسعة في العصر العباسي.وعندما انبسطت الحضارة العربية من الصين شرقاً إلى الأندلس غرباً كان لابد أن يلحق بعض مفردات اللغة العربية الاعتوار وأن تتوالد في مناطق الأطراف كلمات تبتعد عن الفصحى وازداد هذا الأمر مع دخول العرب عصور التفكك والانحدار حيث تداخلت العامية بالفصحى.

إلا أن الفصحى كانت تنتصر في كل معركة من المعارك التي خاضتها ويعود السبب إلى أن القرآن الكريم كان حافظاً للعربية فلم تستطع كل اللهجات العامية أن تنجح في زعزعة الفصحى على مر العصور رغم النزعات التي روجت للعامية لكي تحقق أهدافها في تقسيم وتقطيع أوصال الوطن العربي. وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة تاريخية ساطعة وهي أن الفصحى كانت متلازمة لنزوع العرب إلى التوحيد والعامية ملازمة للتقوقع ورفع أسوار الحدود بين أبناء الأمة الواحدة (2).

ومن هنا طرح الدكتور محمد سيد محمد سؤاله حول الوسائل الإعلامية المعاصرة، هل تخدم اللغة أم تفسدها منطلقا من أبعاد متعددة.

البعد الأول:إن الاستعمال الخاطئ للغة سواء أكان داخل وسائل الإعلام أم خارجها فهو يفسد الفكر الوطني ويعطل من قدرات الناس الذهنية.

البعد الثاني: وهو التاريخي للمسألة ويعني ارتباط لغة الإعلام في كل فترة تاريخية بالواقع الحضاري واللغوي الذي يعيشه المجتمع فعندما تمر المجتمعات بفترات سيئة من تاريخها ينعكس ذلك على لغة الإعلام.البعد الثالث: وهو البعد الديمقراطي أي مدى الحرية المتاحة في المجتمع للرأي والتعبير.

البعد الرابع: هو البعد المهني وهو الذي يتجلى من خلال الممارسة الإعلامية وفي هذا البعد تبدو نقاط رئيسية تبين لنا مدى النفع والضرر الذي تقدمه وسائل الإعلام للغة من خلال الممارسة والعمل الإعلامي.

أولها: الاشتقاق الذي يثري اللغة.

وثانيها: هي الأخطاء الشائعة المتكررة في وسائل الإعلام.وأرجو أن لا يظن أحد أن هذا ترف أو خيار يمكن لنا تأجيله على الإطلاق فاللغة اليوم أصبحت لا تقل أهمية عن الجيوش وأخذت الحروب تشن في الإعلام حيث تؤدي الصياغات اللغوية دوراً خطيراً في تشكيل القناعات والمواقف والمفاهيم وأصبحت اللغة الإعلامية بشكل خاص هي التي تضطلع بالدور الأساس في تحديد صورة الأمم والثقافات في أذهان شعوب العالم الأخرى وخاصة في عصر تتسارع فيه سبل نقل المعلومة حتى لكأن المعلومة غدت البديل المشروع للواقع (3).

üجامعة العلوم التكنولوجيا /بكالوريوس إعلام

هوامش:

(1) اللغة الإعلامية، د. عبدالستار جواد، بغداد 1995م.

(2) اللغة العربية والإعلام المقروء، تركي صقر.

(3) دور اللغة العربية، د. بثينة شعبان

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى