أجمل أمّية

> ريم عبدالغني:

>
تململ الرجل في مقعده أمام مكتبي، وكأنه يستأذن بالمغادرة، رفعت سماعة الهاتف أستعجل الرسومات التي ينتظرها، وحاولت أدباً أن أحدثه ريثما تكون جاهزة.

ولأنها المرة الأولى التي أقابله فيها، فقد كان غريبا أن يقودنا الحديث بعد السؤال التقليدي عن الطقس والصحة، إلى زوجته، لكنني لاحظت كيف اكتست تعابير وجهه بالمحبة وهو يحدثني عنها:

«تصغرني زوجتي بعشر سنوات وهي أجمل نساء الحي قاطبة، لدينا ثلاث بنات وثلاثة أولاد». علت شفتيه ابتسامة رضا عريضة وهو يضيف: «تخرج ثلاثة منهم في كليات الهندسة والآخرون في كلية الآداب.. لست شابا كما قد أبدو..» ثم أردف بسعادة وفخر: «ورغم أن زوجتي أمية، لا تقرأ ولا تكتب، فإنها من علم الأولاد وأوصلهم إلى الشهادات الجامعية». وعندما شاهد علامات الدهشة على وجهي تابع بحماس قائلا:

«لطالما أوحت لهم منذ صغرهم بأنها تجيد القراءة والكتابة، كانت تمسك الكتاب متظاهرة بالقراءة، بينما يتلو أحدهم الدرس، ولأنها أم وتعرف أطفالها جيدا فقد كانت قادرة على التقاط اللحظة التي يتلكأ أو يخفت فيها صوت أحدهم أو تبدو عليه أمارة عدم الثقة بما يقول، وكان ذلك مؤشرا كافيا للمرأة ذات الذكاء الفطري لكي تمد يدها بإشارة التأنيب أو التهديد، وطبعا يعاود الولد التركيز على الدرس حتى يحفظه». قهقه عاليا وهو يروي كيف اكتشف أولاده الحقيقة فيما بعد حين طلب ابن الرابعة عشرة من أمه يوما أن تساعده في حل مسألة الرياضيات، ولم يفلح تعذرها بانشغالها أو آلام رأسها في إخفاء الحقيقة. لقد كان معجبا للغاية بما صنعته زوجته.. وكذلك كنت أنا.

حمل الأوراق ومضى بعد أن ودعته، مصرة بصدق أن ينقل إعجابي وتقديري لامرأة لا أعرفها، ولكنها نموذج لكثير من الأمهات العربيات اللواتي- وإن لم تتح لهن فرص التعلم - كافحن بجد لإعداد «شعب طيب الأعراق» ووصلن بأبنائهن إلى أعلى مراتب العلم والنجاح، فكنّ بخبرتهن ووعيهن أكثر عطاء أحيانا من بعض مَن تعلموا.

بعدها.. لم أستطع أن أمنع نفسي من التساؤل: «هذه المرأة التي أنجزت ما أنجزت بأمّيتها، ترى ماذا كانت لتفعل لو تعلمت»؟

لكنني ابتسمت وأنا أتذكر حادثة حقيقية كنت قد قرأتها.. فقد التقى سياسي عربي كبير- وكان أمّيا - بنظيره الأجنبي، وأعجب المترجم الأجنبي أيما إعجاب بحدة ذكاء السياسي العربي ونجاحه في إدارة المفاوضات لصالح بلاده، وفي استراحة جانبية بادر المترجم الآخر قائلا: «خسارة أن هذا الرجل العظيم أمّي، ماذا تراه كان ليصبح لو تعلم، أي مجد كان سيصل»؟ فأجابه ببرود: «كان سيصبح مترجما مثلنا».

وبعد.. ألا يجب إعادة النظر في التعريف الدقيق لكلمة «الأمية» وعدم ربطها حصرًا بالقراءة والكتابة؟ إن للعلم والمعرفة والتفوق معايير وأشكالاً أخرى..

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى