في وداع الرائعة نازك وتذكير برواد الشعر الحديث باليمن

> أبوبكر السقاف:

> رحلت الرائدة الكبيرة نازك الملائكة، صاحبة قصيدة الكوليرا المشهورة في زمن الكوليرا السياسية التي تعصف وتعبث بكل وطن عربي على حدة وبالأركان العربية كافة، لا سيما في وطنها العراق، الذي أعاد استعماره (الامريكي القبيح) وهو صورة أدبية وجدت ضالتها في صورة وتفكير ومثل الرئيس المسدس جورج بوش، الذي لم يكن الدكتور محاضير (مهاتير) مبالغا في وصفه بأنه «يتلذذ بقتل أطفال العراق» في ندوة نظمها في شباط الماضي وحاصرها الإعلام العالمي الذي تسيطر أمريكا وشركاؤها على نحو ?80 منه.

رحلت شاعرة الحزن الأولى في زمن أرجتعنا فيه عوامل التفتيت والتدمير الداخلية والخارجية إلى مكوناتنا البدائية، فأصبحنا نتفنن في هزيمة أنفسنا وأصبح وجودنا لا عدونا هو ما نقوم بتدميره. إنها بحق واحدة من أغرب صور التدمير الذاتي في التاريخ.

جاء قول العزيز هشام السقاف في «رحيل رائدة الشعر الحر نازك الملائكة« («الأيام» 2007/6/23م) «ماتت على وسادة من حزن وشجن وألم» إجمالا حزينا ومريرا لأعمق جوانب شعرها، ولاأزال أذكر مما كانت تنشره في مجلة «الآداب» البيروتية في الستينات من القرن الماضي إحدى أروع قصائدها: خمس قصائد للألم، وتستيقظ في ذاكرتها كلما سمعت اسمها أو قرأته .. وبدا لي دائما أنها أكثر من جعل الألم كائنا وجوديا، فلم يعد لحظة أو حدثا أو أمرا طارئا على الذات ووجودها بل أصبح متوحدا بالوجود، وهذا بعد إنساني نجده في تاريخ الشعر في الثقافات كافة «...نحن توجناك في تهويمة الفجر إلهاً، وعلى مذبحك الفضي، مرغنا الجباها، يا هوانا يا ألم...».

والشعر في هذا الزمن مثل الحب (طائر غريب) بعد أن امتدت يد التنميط والامتثال والتماثل إلى كل شيء حتى الرقص والغناء، وأصبح الإنسان وسيلة في مجتمع الأدوات/ الأشياء، الذي شكا الفلاسفة من اغتراب الإنسان فيه. ولأن طرد الشعر من الوجود يعادل نهاية الإنسان فإن الشعر خالد ما بقي الإنسان، وخرافة نهاية الفن أو التاريخ فقاعات أيديولوجية خبيثة تقوم بدور سياسي في بلاط الامبريالية المعولمة.

سررت لأن مقال هشام العزيز عن نازك نشر بعد يومين من وفاتها ولإنصافها لا سيما في وجه نرجسية الذكور. وإشارته الرقيقة إلى قاهرة المعز عادت بي إلى ايام الدراسة فيها في افق الذكريات لأيام كانت مترعة بالبحث عن المعرفة والتوق إلى الجمال وفنونه لا اقتحام عالم السياسة واكتشاف الذات والآخر واندياح الروح في المدى العربي الذي بدا عظيما وواعدا كريما بالآمال المتينة وكأنها قاب قوسين أو ادنى. كما عادت بي إلى زملاء دراسة ورفاق درب لا أشك أن اسماءهم ستجد طريقها إلى قلمه لو عرف تاريخها ودورها في عالم الشعر العربي الحديث الذي أدخلونا فيه بإبداعاتهم الرائدة. أقصد الراحل إبراهيم صادق، وعبده عثمان، ومحمد أنعم غالب. وهم أعضاء فاعلون في ما أسميه منذ الستينات مدرسة القاهرة لتعريف المجددين في غير صعيد منذ بداية الخمسينات، لأنهم تفتحوا شعراء مبدعين في حدائقها وشوارعها ونواديها وجمعياتها وداخل هم الطلائع المصرية المناضلة، التي حلموا معها بوطن/ أوطان حر وشعب/ شعوب سعيد. ولريادتهم ملمح فريد آخر هو أنهم جميعا كانوا طليعيين بامتياز في الفكر والثقافة والسياسة وفي الإيمان بنهضة المرأة العربية، وحضر في طليعيتهم فكر الليبرالية والقومية واليسار والاممية. وكانوا ناشطين في مجال السياسة كل على شاكلته، ومحبين فنوا في عشق اليمن.

ولذا كنت أتوقع أن يرد ذكر هذه الأسماء في سياق الحديث عن المجددين والرواد في الشعر العربي الحديث: شعر التفعيلة، الذي ظل رغم صراخ المحافظين داخل فلك الخليل، وهؤلاء المجددون أولى بالذكر والتأكيد على دورهم وأسبقيتهم من الاسم الذي ذكر في سياق الفقرة قبل الأخيرة من مقاله، فهو من الجيل الثاني من شعراء التفعيلة في اليمن. أرجح أن الزميل لا يعرف عن تلك المرحلة ولو عرفها لأشار إليها وأعطاها حقها من التنويه. وأنا متأكد أنه أبعد ما يكون عن كتابة التاريخ بأثر رجعي كما يفعل كثيرون من يوم الوحدة الميمونة، فيوكلون إلى الحاضر كتابة الماضي، وهو جهد لن يكتب له إلا الفشل لأنه ضد على المنطق، بما في ذلك منطق التاريخ. ولن يفلح لا في السياسة ولا في الشعر ولا في الأدب.

قصيدة إبراهيم صادق التي سمى ديوانه باسمها (عودة بلقيس)، وقد قدم الديوان الحبيب الراحل عمر الجاوي، واحدة من أجمل القصائد الطويلة في الشعر العربي الحديث، فرغم أنها ذات محتوى سياسي إلا انها حبة في نص شعري يلبس فيه الخيال صورا متحركة تجعلنا نصدق قول الناقد الأمريكي ماكليش «إن الشاعر يجلس على محاور الأشياء». وقصيدة الزميل محمد غريب على الطريق، التي قدمها أيضا الجاوي أوديسة النفس والعبق، إنها تاريخ بالشعر لرحلة علي (=اليمني) في العالم، وهي مثل عودة بلقيس ألهمت كثيرين من الذين كتبوا القصيدة الفصحى أو العامية. وأنعم واحد من القلائل في بلادنا الذين استلهموا في وقت مبكر (الستينات) شعر الهايكو الياباني، وهو استلهام عذب وشاق وأعرف هذا بالتذوق والتجربة.

شعر العزيز عبده موزع على كل ذرى الوجود الإنساني، بالدلالة التي تقدمها الفلسفة الوجودية لهاتين الكلمتين الآنية عند المتصوفة العرب المسلمين و(الدازاين) في الفلسفة الوجودية وبعض قصائده ذات المنحى الوجودي من محفوظات الراحل عمر وكاتب هذه السطور.. وكان رائدا في تطويع الشعر الجديد للقضية السياسية اليمنية، وصاحب كلمات غير أغنية في شعر العامية وقد سررت عندما قرأت وأخبرني هشام قبل أيام عن الفتاة التي ناقشت رسالة ماجستير في شعر عبده. ويبدو لي أن الشاعر فيه ظل يصارع الدبلوماسي. وتتميز علاقته بأصدقائه بالحب الصادق.

إذا كان إبراهيم مشهورا في الوسط الطلابي اليمني فإن أنعم وعبده كانا يعيشان في معترك الحياة الثقافية الجياش، وفي المختبر الشعري في القاهرة وربطتهما صداقة كريمة بالراحل صلاح عبدالصبور وأحمد حجازي الباعث والروائي والمترجم، وبالراحل غالب هلسا الباري الاردني الذي ناضل في كل المشرق، وبالراحلين العزيزين جيلي عبدالرحمن وتاج السر الحسن، وهما من شعراء السودان الطليعيين من خيرة مناضلي اليسار في مصر والسودان، وبالعزيز الشاعر محي الدين فارس الذي اشتهرت قصيدته الرائعة عن الشابة لوسي الامريكية الافريقية التي كانت تذهب إلى المدرسة في رفقة جنود من جيش الاتحاد لحمايتها من العرقيين البيض الذين رفضوا أن تدرس مع بناتهم. إن العيب المشترك بين هؤلاء الرواد هو أن نبلهم يحول بينهم والدعاية لأنفسهم، في بلد يعتبر التواضع رذيلة.

هذا باللغة القديمة غيض من فيض. وهذه قضية تستحق أن تكتب بعناية وروية. بقي أن أقول: -1 إني مهتم بتحديد موقع الشاعر الطليعي عبدالرحمن فخري فهو من الذين يملكون ثقافة نقدية عصرية ومعاصرة، تشي بها كتاباته النقدية، أما شعره فقد تجاوز ملك التفعيلة والخليل معا وتنهض في سطور قصائده لغة شعر أصيلة (فريدة) تدمج إحساس القارئ بالعصر والحضارة. -2 الريادة على المستوى العربي كانت لابن حضرموت الراحل علي أحمد باكثير منذ العام 1939م وهذا موضوع مستقل. وكنت قد سلمت العزيزين هشام وباشراحيل مقالاً نشر في «القاهرة» القاهرية في نوفمبر 2005م للأخ إبراهيم الأزهري فصل فيه مذكراً بريادة باكثير وكتابه المترجم الذي قدم له الراحل إبراهيم عبدالقادر المازني.والأزهري بدوره مبادر كريم فهو سكرتير جمعية أصدقاء باكثير في مصر. هل تاه الموضوع في دهاليز صحيفة الأخبار والسياسة والرأي ولم يجد طريقه إلى الصفحة الأسبوعية فيها المخصصة للأدب..؟ وهناك رائد آخر ومن حضرموت أيضاً ومن مدينة باكثير نفسها هو الراحل العزيز حسن بن عبيدالله السقاف، الذي نشر ديوانه في 1940م في القاهرة، ويقال إنه مفقود؟ ونشر منه شذرات في دراسة له في الحكمة الصديق السوداني العزيز علينا جميعاً، لاسيما من لهم خبرة سومانية حية توحدت بالذاكرة والخيال الدكتور الخليفة المبارك مرات ثلاثاً.

ودراسة أعداد مجلة المستقبل من يناير 1949م مهمة لمعرفة البدايات في غير جنس أدبي.

ازددت اقتناعاً بضرورة تقديم تاريخنا الحديث بوساطة عرض سيرة كل الرواد في الفكر والأدب والسياسة والصحافة والشعر والفنون.. حتى نوجد مرجعاً للذاكرة ويعرف أبناء وبنات هذا الجيل تاريخهم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى