عدن: من عاصمة دولة إلى عاصمة المتقاعدين

> علي هيثم الغريب:

> هناك علاقة وثيقة متداخلة بين العدالة وبين حقوق المتقاعدين تسريحاً ومعيشة أبنائهم وأسرهم لا يصح تجاهلها، بل ان الإخلال بهذه العلاقة يعتبر موقفاً سياسياً.. حيث أصبح تجمع المتقاعدين تسريحاً أحد المطالب الأساسية من مطالب إزالة آثار حرب 94م.. وتعكس عمق الأزمة بين الحكومة ومطالب أبناء محافظات الجنوب، فالنموذج السائد منذ حرب 94م هو الإفقار وزرع ثقافة جديدة لا تخدم الوطن اليمني ولا الوحدة، وقد أدى هذا الاختلال بالتوازن بين حقوق المتقاعدين تسريحاً من ناحية والثقافة الوحدوية من ناحية أخرى إلى انتكاس مفهوم المواطنة المتساوية المرتبطة باتفاقيات ودستور الوحدة.. وتفوق - أثناء تطبيق قانون المعاش رقم 43 لسنة 2005م الذي ألغى القانون رقم 1991/67م والقانون رقم 1992/33م وتعديلاته والقانون رقم 2003/1م بشأن صندوق الخدمة الذي حل محل القانون رقم 1999/1م - العنصر الشكلي في سيادة القانون المتمثل في تسريح من يمتلك ملفاً وظيفياً متكاملاً على حساب عنصره الموضوعي المتمثل في حماية حقوق المواطنين المشتغلين مع الدولة والذين سرحوا (بقانون) ونحن على يقين أن ذلك لن يكتب له الدوام لانعدام عوامل المواطنة المتساوية والأمان الاقتصادي والسلام الاجتماعي المرتبطة بالدستور والقوانين الأخرى فالوزارات ومؤسسات الدولة والمصالح الحكومية تسير على قدم وساق لتطبيق قانون لا ينسجم إطلاقاً مع قوانين التوظيف التي كان معمولاً بها في محافظات الجنوب قبل الوحدة.

ويبدو أن ذلك يسير في مظهرين: أولهما شروط التقاعد التي ينظمها القانون، والتي لا تطبق إلا على الموظفين من أبناء محافظات الجنوب بحكم الإدارة العلمية التي كانت في الجنوب قبل الوحدة، وثانيهما: تخلف تفسير المبادئ الفقهية والعلمية التي على أساسها تبني القوانين، وهذا كان نظراً للقناعة السياسية الممنوحة للوزارات والتي تمارس وفق مواقف سياسية، ذلك أن دور الوزارات الحكومية التي أقصت موظفي محافظات الجنوب بهذه الصورة يقتصر على تنفيذ القانون المتلازم مع الموقف السياسي، وهو الموقف السياسي الذي ظهر بعد حرب 94م وأساء للوحدة، حيث كان يجب أن ينطلق الموقف السياسي إلى آفاق أوسع سواء لمواجهة التمييز غير المباشر الذي جاء نتيجة ظروف سياسية سابقة من سن القانون2005/43م أو للاعتراف باختلاف التعامل مع الموظفين لأسباب تتعلق بتنظيم الإدارة في الشمال والجنوب قبل الوحدة. وقد استقر رأي بعض خبراء الاقتصاد والقانون، وعلى رأسهم الأستاذ محمد عبدالله باشراحيل والدكتور علي عبدالكريم على أن المساواة أمام القانون يجب أن تسبقها عوامل ومقتضيات المصلحة العامة قبل سن القوانين، بحيث تشارك الشرائح الاجتماعية التي تستهدفها تلك القوانين في وضع الشروط الموضوعية التي تتحدد بها حقوقها، فالقانون رقم 2005/43م بشأن نظام الوظائف والأجور والمرتبات عمق عدم المساواة بين المشتغلين بالأجهزة الحكومية، فهناك من هو جاهز للإحالة إلى المعاش التقاعدي بحكم النظم التي كانت متبعة سابقاً في توظيفه وتدرجه الوظيفي، وهذا انطبق تماماً على جيش جرار (عشرات الآلاف) من أبناء محافظات الجنوب، ولا ينطبق على موظفي الدولة الآخرين لأن ملفاتهم لم تعد إلا بعد حرب 1994م وبدلاً من أن تلجأ الدولة إلى معالجة هذه الظاهرة لجأت إلى سن قانون يعطيها شرعية فرض التقاعد باعتبار أن القانون ينطبق على الجميع بغير استثناء، ثم إن القانون 2005/43م نفسه بقواعده العامة لم يكن أصلاً عادلاً أي أنه يقرر المعاملة الواحدة لموظفي إدارتين كانتا قبل الوحدة... بعد أن خضع الموظفون من أبناء محافظات الجنوب إلى معاملات سياسية محزنة، حيث كانوا يرون أمامهم كيف رفع الآلاف إلى رتب عسكرية وأمنية ومدنية وحرموا هم منها بحكم الهزيمة، وفي هذه الحالة فإن فكرة المساواة لا يمكن أن تتحقق إلا بالاختلاف بالمعاملة أي أن يكون هناك قرار سياسي يعالج الانتهاكات التي تمت بعد حرب 93م، وفي ضوء ذلك تعود صياغة القانون رقم 43 لسنة 2005م لكي يضع المشرع قواعد متميزة لكل مجموعة من الموظفين المحالين إلى المعاش التقاعدي، الذين كانوا يندرجون تحت قواعد قانونية مختلفة بحكم النظامين الإداريين المختلفين في صنعاء وعدن وإلا ففي هذه الحالة لا يمكن أن تحصل مساواة أمام القانون ولا بواسطته.

وأقصد بالقواعد القانونية المختلفة إمكان إيجاد معاملة قانونية واحدة لموظفين مختلفين من حيث النظام الإداري الذي كان معمولا به.. وإعادة صياغة القانون رقم 2005/43م تعطي مضموناً متكاملا للمساواة من جهة، ويكون التمييز في المعاملة مشروعاً لوجود مشتغلين استوفت فيهم شروط التقاعد بحكم التنظيم الإداري الذي كان معمولاً به في المحافظات الجنوبية والعكس صحيح، وهذا التمييز له سببه الموضوعي المنطقي وعبره (فقط) تتحقق المساواة التي هي هدف أي قانون.. إضافة إلى أن التوظيف تترتب عليه حقوق والتزامات.

والقانون رقم 43 لسنة 2005م بشأن نظام الوظائف والأجور والمرتبات كان يجب أن يستوعب هذه الإشكالية التي تحولت بعد التطبيق إلى أزمة شاملة.. وإذا لم تستجب الحكومة لمطالب المتقاعدين فإنه لا يوجد أي طريق تتكافأ من خلاله الحكومة والمتقاعدون غير حق التعبير السلمي المشروع وحق التقاضي.. وهي آخر علاقة قانونية تلزم بها الحكومة. وبناءً على هذا المبدأ فإن الاختلاف بشروط التوظيف الذي كان معمولا به في صنعاء وعدن قبل إعلان الوحدة يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك عدم دستورية القانون رقم 2005/43م وكان على المشرع أن يجيز استثناء بعض الشروط بشأن الإحالة إلى التقاعد، وأن تقوم هذه الاستثناءات في أساسها ودوافعها على ضمان بقاء قوام النسب الوظيفية المحافظة على الوحدة الوطنية، وبما أن بلوغ سن التقاعد أساس موضوعي يؤدي إلى وحدة التعامل وفق نظام التوظيف إذاً فإن القانون رقم 2005/43م لا يستند إلى طبيعة العلاقة القانونية التي خضع لها الموظفون من أبناء محافظات الجنوب، لذلك كانت آثاره وخيمة عليهم وأخل بمبدأ المساواة مما أدى إلى أن من أحيل إلى المعاش التقاعدي أو الصحي أو لأسباب سياسية من أبناء محافظات الجنوب قبل 2005م قد حرم من ميزتين هما زيادة الراتب الأساسي وزيادة المعاش المتغير، وذلك بخلاف من سيحال للتقاعد بعد ذلك التاريخ فإنه استفاد من عدة مزايا قانونية، وفي هذا المعنى فإن القانون رقم 2005/43م كان يفترض به حماية الحقوق التي أنتجتها القوانين السابقة (القانون رقم 1991/67م بشأن حقوق الخدمة قبل التقاعد، القانون 1992/33م بشأن حقوق المعاش والمكافآت للتقاعد، القانون 2003/1م بشأن صندوق الخدمة، قانون هيئة الشرطة رقم 2000/15م) بغض النظر عن نتائج حرب 94م وأن يكون متوائماً مع أحكام الدستور بما يؤكد مشروعيته، وإذا كان الاستغناء عن الكفاءات والموظفين من أبناء محافظات الجنوب بعد الحرب مخالفاً لاتفاقيات الوحدة ودستورها فإن القانون الجديد رقم 43 لسنة 2005م كان يجب ألا يقاس عليه ذلك الأمر خاصة وقد مرت 13 سنة على الحرب وهذه الطرق غير جائزة شرعاً، وتنحدر إلى مرتبة التسريح القسري.. خاصة وان قانون نظام الوظائف والأجور والمرتبات الجديد يعبر وهو بوضعه الحالي عن سياسة محددة أنشأتها ظروف ونتائج حرب 94م وأوضاع أخرى لها مشكلاتها، وتطبيقاً لتلك السياسة تلوح الحكومة أيضاً بحرمان المتقاعدين من اعتصاماتهم السلمية ومن تشكيل جمعياتهم ومن حق التقاضي وهذه الإجراءات إن تمت فهي تنطوي على إهدار حقوق دستورية أخرى وتدمر مبدأ المساواة بين المتقاعدين المتظلمين وبين الحكومة، الذي كفله الدستور، ويعتبر إخلالاً بكافة التشريعات اليمنية، فبأي حق، وأي قانون يخول الحكومة منع المواطنين من ممارسة حقهم في اللجوء إلى القضاء؟ ومن يمتلك الحق في تعطيل هذه الحقوق؟! خاصة وأن الانتهاكات كثيرة ومستمرة، حيث تخلصت أجهزة الدولة بواسطة الإجراءات الإدارية الباطلة من كوادر وكفاءات وموظفين بواسطة (التقارير الطبية، قوة غير عاملة، قوة فائضة، بدون شاغر للتسكين .. الخ) وتعرضت حقوق أبناء محافظات الجنوب للنهش والمساومة والحرمان .

كل هذه الإجراءات تفتقر إلى الشرعية القانونية والدستورية.. ثم جاءت الحكومة بالقانون الجديد وجعلت منه مجرد أداة لتسريح الموظفين من أبناء محافظات الجنوب وأداة لتقييد حقوق المحالين إلى التقاعد وبمساعدة لائحة غير قانونية (استراتيجية الأجور) وبهذه الإجراءات الباطلة فقد الدستور وحدته كأعلى وثيقة قانونية تحمي حقوق الإنسان، فتحولت القوانين بعد هذه الانتهاك للدستور إلى غطاء شكلي لتغييب حقوق ومطالب أبناء محافظات الجنوب، الأمر الذي يجرد تلك القوانين من معناها ويؤدي وجودها إلى الزينة ليس إلا. ولكي نؤكد الانتهاكات التي مورست على الموظفين من أبناء المحافظات الجنوبية وطريقة التخلص التدريجي منهم فالموظف (سواء أكان عسكرياً أم مدنياً)عندما عاد إلى مكان عمله- وليس إلى وظيفته السابقة طبعاً- بعد الحرب الظالمة وبعد صدور قانون العفو العام لم يجد الأمان، حيث خضع للاستجواب غير المباشر من خلال الاستمارات التي طلب منه تعبئتها، ومن خلال اللجان العسكرية والأمنية التي كانت تطلبه كل شهرين أو ثلاثه أشهر وتنزل إلى محافظات الجنوب (فقط) للتأكد من وجوده ثم استجوابه من جديد، وهذه العملية مستمرة حتى اليوم (آخر استمارة طلب منا تعبئتها كانت في شهر مايو 2007م مع صورتين شمسيتين).

لجأت الحكومة إلى نقل عدد كبير من الموظفين إلى مناطق يصعب عليهم العمل فيها، أو أن يقيموا فيها لأسباب صحية أو عائلية، وعندما نقلوا إليها بغير إرادتهم اضطروا إلى طلب الاستقالة أو إحضار تقرير طبي مزور أو طلب التقاعد المبكر مع دفع قيمة بقية السنوات لإنهاء الخدمة قبل بلوغ الأجلين، أو إلى الاستسلام ومحاباة من بيده الأمر في نقله أو بقائه، فتأثر أبناء محافظات الجنوب تأثيراً عميقاً لما ينالهم من عقوبات، وذهبوا يدفعون رواتبهم لمن يمدهم بتقارير يثبتون فيها عجزهم عن العمل. ومن أمثلة هذه العقوبات الكثير، وهي مخالفة لأبسط القوانين المعمول بها في بلادنا وتتنافى مع الأخلاق الإنسانية .. علاوة على أن هذه الإجراءات العقابية تتعارض مع المواطنة المتساوية، وهي تمييزية وتحكمية، وتجاوزت الحدود المنطقية للنقل أو التقاعد أو العزل. ويظل السؤال قائماً حول تقدير عدد الموظفين في كل الوزارات الحكومية والمؤسسات والهيئات الذين استغنوا عن العمل بعد أن سحبت مناصبهم العسكرية والمدنية بما فيها المتوسطة والدنيا لأسباب أخرى لا تعد ولا تحصى فهل كان ذلك قائماً على مبدأ المساواة؟ وهل الإجراءات التي تمت في هذه الحالات تعتبر شرعية وقانونية؟ طبعاً هناك إجابة أولية وهي أن كل تلك الإجراءات كانت متعارضة تماماً مع اتفاقيات الوحدة ومع القوانين والتشريعات التي سنت بعد الوحدة، هذا لأنها مايزت بين الموظفين رغم أنهم ينتمون إلى حكومة واحدة ووطن واحد، وهو تمييز لم ينبن على أسس موضوعية أو قانونية.. وبسبب ذلك عانت آلاف الاسر الآلام والجوع والمرض وانتحار رب الأسرة.. بل وتحولت هذه الإجراءات مع الزمن إلى سلطة مطلقة لا قيد عليها ولا عاصم من جموحها، حتى تكللت مؤخراً بإحالة عشرات الآلاف من العكسريين والأمنيين والمدنيين من أبناء محافظات الجنوب إلى التقاعد الإلزامي ووفق إجراءات جائرة. وفي هذا الصدد أبطلت أو تم التحايل على كل التوجيهات العليا وكذلك أحكام القضاء التي تنفذ على البعض ولا تنفذ على البعض الآخر وغاب القانون واستبيحت أبسط قواعد الحياة والمعيشة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى