دولة القات .. وواقع الحال في المجتمع

> عبدالقادر باراس:

> سبق أن أثيرت العديد من الموضوعات التي تتعلق بالقات من خلال النشرات والصحف تم فيها تناول هذه المشكلة المزمنة الخطيرة في شتى النواحي، إلا أن المجتمع قد دأب على تقبلها بطقوس اجتماعية متوارثة، وأصبحت فيما بعد سمة ثقافية ولكن سلبية اتسم بها واقع حياتنا.

فتلك الوريقات لا تعني هروبا من واقع البؤس والفساد فقط بل أصبحت تجسيدا لوجودنا وشريانا حقيقيا في دمائنا التي ربما تتحول مع الزمن إلى اللون الاخضر .

وبيننا نحن اليمنيين والقات، وبين لغة الأرقام عداء مستحكم وعداوة تبدو أبدية، كما تبينه لنا باستمرار الأرقام المخيفة في احصاءات الاقتصاد وغيرها من حيث ما تشكله هذه النبتة من استنزاف للمال وإهدار للوقت وإهلاك للموارد المائية، وإزاء هذا الوضع فإنه من المضحكات المبكيات أن القلق يكاد أن يكون الشيء الوحيد في عالمنا الذي يعتبر قاسما مشتركا لعلوم الأرض الانسانية والطبيعية، فهو يشكل بحد ذاته محورا فريدا يربط علوم السياسة والاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والاجتماع والثقافة والفن والحقوق والبيئة والزراعة والمناخ والكيمياء والاحياء والطب والهندسة البيولوجية وهندسة الموروثات وجيولوجية الأرض، ليبث (القات) سمومه عليها، ولتمسي هذه النبتة الهيلمانية قائدا ومفكرا ولاعبا أساسيا ضد انجازات النماء والحضارة الانسانية في حلبة الصراع الأزلي بين الخير والشر .

ولم تعد هذه المشكلة اجتماعية أو مسألة ثانوية كما يتراءى للبعض، حيث إنها فرضت نفسها وبقوة على مظاهر حياتنا، فيصعب الحد أو التقليل منها بعد أن تمكن هذا المد القاتي السرطاني من الاستفحال والاستشراء بين مختلف الفئات من الجنسين بصورة تثير الرعب، وخاصة عند النساء والاطفال، حيث إنه لم يكن له رواج كبير لدى هاتين الفئتين بالذات فإذا نظرنا إلى الجانب المتعلق بمضغ القات عند النساء، فقد تعددت الآراء في ذلك، فمن الترويح عن النفس ومنحهن الشعور بالحرية، إلى الاعتقاد بأن هذه العادة تمثل حقا من حقوقهن خاصة فيما يتعلق بمسألة مسأواتهن بالرجال، الا أنه يتضح جليا أن السبب يعود الى تغير نمط الحياة بمظاهرها المختلفة، وخروج البعض منهن إلى ميادين العمل، كل ذلك اكسبها مبررا في اتخاذها من مضغ القات وسيلة ترويحية لقضاء أوقات فراغها ولا تجد حرجا من تناوله.

وللمقارنة فيما هو سائد بين اوساط النساء في جنوب وشمال اليمن قبل قيام الوحدة السلمية بينهما في عام 1990م، نجد ان هذه الظاهرة لم تكن منتشرة في الجنوب بل لدى قلة قليلة لا تذكر، حيث كان من العيب تناولها لأن نظرة المجتمع اليها كانت اشمئزازية وغير مقبولة بسبب وجود بيئة متحضرة ومتمدنة، تحكمها إدارة مستنيرة ترسخت فيها العادات الجميلة معمدة بتقديس النظام والقانون.. بينما هناك بيئة مغايرة تماما في الشمال، متأخرة تحكمها إدارة فوضوية وبتقاليد متوارثة معمدة باحتقار النظام والقانون، وكان القات من ابرز مساوئها، وللاسف بدأت هذه العادة السيئة في الاتساع والانتشار بين أوساط النساء، وأصبح لهن مجالس بعد ان كانت حكرا على الرجال، ولكن مقتصرة في مناسبات مختلفة كالأعراس او الولادة او مجالس العزاء، اما الآن فأصبحن حريصات على تبادل الزيارات فيما بينهن كأحد مظاهر الحياة الاجتماعية بغرض حضور جلسات تعرف بـ(التفرطة) في مجلس يجمعهن يوميا للترويح عن انفسهن من متاعب العمل، في حين تتخذ القلة من المثقفات جلستهن فرصة لمناقشة وبحث القضايا المتصلة بأمورهن.

ولمجالس النساء طابع خاص يفوق بكثير مجالس الرجال في التكاليف، حيث تتباهى فيه النساء بزينة اللباس والحلي، ويصل حتى في حملهن حقائب مخملية وبداخلها القات ملفوفا بأوراق القصدير، الى جانب المكياج والمكسرات والقرنفل لتحلية مذاق القات.. كل هذا في مجتمع يكتنفه الفقر والعوز والفاقة.

والامر لا يقف عند هذا الحد بل امتد الى الاطفال، حيث نلاحظ وبتعجب ارتياد الاطفال اسواق القات، ففي الماضي القريب كانت هذه الاسواق مقصورة على فئة الرجال، الا أنه قد حدث الآن تغير كبير في التركيبة الاجتماعية والثقافية في دخول الاطفال الى عالم القات ليسلب براءتهم، وبدخولهم عالم الرجولة قبل الأوان الأمر الذي يعودهم الادمان دون ادراك العواقب الوخيمة من ذلك، والتي من ابرز مظاهرها انحرافهم وتصدع الأسرة، وما لذلك من اثر مدمر على المجتمع. وإذا ما عدنا للبحث عن اسباب ذلك فنجد تغاضي رب الأسرة، بل وتشجيعه لاطفاله على تعاطي القات دون شعوره بحجم الخطورة المترتبة على طفله ومستقبله وما سيعكسه ذلك بشكل سلبي في علاقته مع محيطه ومجتمعه لتصبح الطفولة هي الأخرى واحدة من ضحايا القات الذي يكذب من يعتقد انه رمز لهوية اليمني .. كلا وألف كلا. فأجدادنا الذين كانوا ذروة سنام الاسلام وخير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم نشروا راية التوحيد في اصقاع الأرض متسلحين بإيمانهم الكامن في نفوسهم ولم يكونوا حينها متسحلين بوريقات القات، حتى ان بناة سد مأرب وناطحات السحاب في شبام، وأقدم الحضارات الانسانية في التاريخ، لم يكتبوا هذا التاريخ بسموم القات، بل إن القات دخيل على كياناتهم ودويلاتهم .. دخيل على تاريخهم وحضارتهم .. دخيل على انسانيتهم ومستقبلهم.

وفي هذا السياق ليس مهما مقاومته ومحاربته فقط، بل الاهم هو الانتصار على دولته لتغيير واقع الحال بدءا من الأسرة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى