سلطة عدوّها النضال السلمي

> د.محمد علي السقاف:

> أظهر أبناء المحافظات الجنوبية من المتقاعدين العسكريين والأمنيين، والمواطنين البسطاء من محافظة عدن وبقية المحافظات قمة سلوكهم الحضاري والمدني بتمسكهم بخيارهم في النضال السلمي لتحقيق مطالبهم الحقوقية وتطلعاتهم السياسية المشروعة.

وحققوا انتصاراً رائعاً في مواجهة أدوات القمع التي حالت دون حقهم في الاعتصام في ساحة الحرية يوم الخميس 2 أغسطس بالامتناع عن الرد على قوى الأمن التي أرادت إخراج قوى انتفاضة أبناء الجنوب عن مسارها وخيارها السلمي في تحقيق مطالبها، فقد كان بإمكان المتقاعدين العسكريين والأمنيين التسلح لحماية أنفسهم والدفاع المشروع عن النفس، وهو ما كانت تتمنى السلطة أن يحدث لإسقاط الطابع السلمي لنضال المتقاعدين الذي أعطاهم شعبية كبيرة وتعاطفاً ليس محلياً فحسب بل أيضاً من قبل أطراف أجنبية تراقب عن كثب ما يحدث في المحافظات الجنوبية، وهي تعلم شهرة اليمن السيئة في العنف وتوفر السلاح والاعتزاز باقتنائه كسلعة مثل بقية السلع يسهل شراؤها دون تنظيم لسوق السلاح أو لحمله.

فثقافة النضال السلمي تتعارض مع ثقافة المجموعات القبلية، وسياسة السلطة الرسمية التي لا ترى في النضال السلمي إلا شكلاً من أشكال الخضوع والضعف على مستوى الأفراد أو المجموعات، ناهيك عن سياسة سلطة الدولة. بيد أن لجوء الدولة من خلال الثقافة المتأصلة والتاريخية لنخبتها الحاكمة إلى تغليب «الحل المسلح» على الحلول السلمية يظل محصوراً في إطار النزاعات مع الأطراف الداخلية في الحرب بين دولتي الجنوب والشمال قبل الوحدة 1979-1972م وفي الحرب الأهلية المشئومة في صيف عام 1994م، والحروب الثلاث في صعدة ضد الحوثيين، بينما في حل النزاعات مع الأطراف غير اليمنية فالسلطة وبحق تفتخر بحلها للاحتلال العسكري الارتيري لجزيرة حنيش في منتصف ديسمبر 1995م عبر هيئة التحكيم الدولي، والنزاع الحدودي مع سلطنة عمان ثم مع المملكة العربية السعودية عبر التفاوض وتوقيع اتفاقية حل النزاع الحدودي معهما. المفارقة هنا تقديم النخب الحاكمة اعتزازها بحلها سلمياً النزاعات الخارجية، وافتخارها وتمجيدها بأن عمدت الوحدة بالدم لحل النزاعات والخلافات الداخلية، والجدير بالإشارة أن النخب التي أشعلت الحرب في عام 1994م وقعت قبلها في فبراير من العام نفسه حلا للأزمة السياسية في شكل (وثيقة العهد والاتفاق) لتشعل بعدها الحرب بعد أقل من شهرين تقريباً!

هنا في مواجهة قرار المتقاعدين العسكريين والأمنيين بالاعتصام الجماهيري بمناسبة ذكرى انتهاء حرب 1994م بتاريخ 7/7 الماضي وجه محافظ عدن تحذيراً بأن قيادة المحافظة لن تسمح بتنظيم أي مسيرات أو تجمعات مخالفة للأنظمة والقوانين وبدون تصريحات مسبقة صادرة من الجهات ذات العلاقة(صحيفة «السياسة» لوكالة سبأ بتاريخ 2007/7/2م) بينما في تصريح آخر للمحافظ عقب ترؤسه اجتماعاً للجنة الأمنية قال «إن قيادة المحافظة تسمح بالتظاهر السلمي وفقاً للدستور والقانون لأبناء المحافظة ... ولن تسمح بأن يجتمع أبناء محافظات أخرى في محافظة عدن.. مؤكداً حق الجميع في التعبير بكل حرية ولكن ضمن الإطار السلمي...» («الأيام» في 2007/7/2م) وفعلاً نجح الاعتصام وجرى بطريقة سلمية في 7/7 . ما الذي حدث وغير في الأمر بالنسبة لاعتصام 8/2؟ في هذه المرة اللجنة الأمنية بمحافظة عدن هي التي قررت وفق ما نشرته صحيفة «26 سبتمبر» العدد الأخير (1339) بعدم السماح بقيام أية تجمعات أو مسيرات أو مظاهرات إلا بعد الحصول على تراخيص رسمية من الجهة المختصة المخولة قانوناً وذلك طبقاً لنص المادة (3) من قانون تنظيم المسيرات والمظاهرات رقم (29) لسنة 2003م.. السؤال هنا: قبل أن تطلب اللجنة الأمنية بمحافظة عدن من الآخرين الالتزام بقانون تنظيم المسيرات هل هي نفسها يخولها قانون السلطة المحلية رقم (4) لسنة 2000م باتخاذ ذلك القرار؟

الجواب لا.. فقانون السلطة المحلية وفق الفقرة (10) من المادة (19) أعطى المجلس المحلي للمحافظة سلطة «مناقشة الحالة الأمنية في المحافظة وإصدار التوجيهات المناسبة التي تساعد على تعزيز الأمن والاستقرار للمواطنين وحماية الحقوق والحريات العامة...»، وقضت من جانب آخر المادة (155) من قانون السلطة المحلية بأن «يعمل مدير أمن الوحدة الإدارية وكذا قوى الأمن العام فيها تحت إشراف وتوجيه رئيس الوحدة الإدارية أو من يحل محله طبقاً لأحكام هذا القانون». قرار الحظر في فعالية 7/7 حسب التصريحات الصحفية صدر من الأخ أحمد محمد الكحلاني، محافظ عدن ولم يطبق الحظر وأبدى مرونة بذلك، فهل حظر 8/2 واستعمال العنف والقمع اتخذته اللجنة الأمنية بتوجيهات من المحافظ نفسه وفق المادة (155) من قانون السلطة المحلية؟ وفي هذه الحالة لماذا لم ينسب القرار إليه مثل المرة السابقة؟ أم أن القرار اتخذ من قبل المجلس المحلي للمحافظة، وهنا أيضاً لماذا لم يصدر باسم المجلس المحلي، أم أن اللجنة بمحافظة عدن ضربت بقانون السلطة المحلية عرض الحائط، وتخطت السلطات المحلية وفق تعليمات من المركز في صنعاء؟ هذه مخالفة أولى للقانون، والمخالفة الثانية تخص قانون تنظيم المسيرات الذي قررت اللجنة الأمنية استناداً إلى المادة (3) منه عدم السماح بالقيام بأي تجمعات لمسيرات أو مظاهرات إلا بعد الحصول على التراخيص الرسمية اللازمة، وهنا أيضا أخطأت اللجنة الأمنية من الناحية الشكلية برقم مادة القانون، فالمادة (3) تؤكد المبدأ العام بحق المواطنين والأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية تنظيم المظاهرات بما لا يتعارض مع أحكام قانون المظاهرات والمسيرات، بينما ما أرادت اللجنة التأكيد عليه يتعلق بتقديم بلاغ إلى الجهة المختصة قبل وقت لا يقل عن ثلاثة أيام من تاريخ بدء المظاهرة أو المسيرة على أن يكون البلاغ مكتوباً ومحدداً فيه تاريخ وتوقيت بدء المظاهرة أو المسيرة، وقد أوضحت الهيئة الوطنية للدفاع عن الحقوق والحريات (هود) أن المتقاعدين والمسرحين من العسكريين لم يدعوا إلى تنظيم مسيرة أو مظاهرة بل إن ما دعوا إليه كان اعتصاماً سلمياً لا يحتاج إلى إشعار الأجهزة الأمنية به، مشيرة بهذا الصدد إلى أن المادة (19) من قانون تنظيم المظاهرات قررت حق المواطنين في تنظيم الاعتصامات والتجمعات المطلبية دون الحاجة إلى إشعار الجهة المختصة وشريطة أن لا يتحول هذا الاعتصام أو التجمع المطلبي إلى مظاهرة أو مسيرة (راجع «الأيام» بتاريخ 3/2 أغسطس).

بالرغم من أن الاعتصامات مستثناة من إشعار الجهات المختصة فإن رئيس مجلس تنسيق جمعيات المتقاعدين العسكريين والمدنيين العميد الركن ناصر علي النوبة أعلن بوضوح منذ مدة طويلة نسبياً في عدة بيانات وتصريحات صحفية آخرها البيان العام الصادر بتاريخ 2007/7/23م دعوته إلى الاعتصام السلمي في يوم الخميس 8/2 في ساحة الحرية في خورمكسر، وذهب إلى أبعد من ذلك في تصريحه لصحيفة «الطريق» بتاريخ 7/31، بأن حدد أيضا الموعد في الساعة التاسعة صباحاً بنفس التاريخ والمكان. إذن من الواضح ارتكاب اللجنة الأمنية بمحافظة عدن عدة انتهاكات لقانون السلطة المحلية وقانون تنظيم المظاهرات والمسيرات، ونأمل العمل معاً مع منظمة (هود) لرفع قضية ضد اللجنة الأمنية ليس فقط لانتهاكها التشريعات اليمنية بل أيضاً العهود والاتفاقيات الدولية المصادق عليها أساساً من (ج.ي.د.ش) والتي انتقلت بالتوارث الدولي إلى الجمهورية اليمنية.

والاستنتاجات من هذه التصرفات الهوجاء أننا بعيدون جداً عن سيادة دولة القانون ودولة الحريات وحقوق الإنسان، كيف يمكن تصور عكس ذلك إذا كانت ثقافة النخبة هي ثقافة العنف والقمع لا تعترف إلا بقانون القوة وتريد جر الأطراف الأخرى إلى تبني الثقافة نفسها ثقافة العنف والقمع لتوحيد هويتهما معاً وهو ما أدركه منذ البداية أبناء المحافظات الجنوبية وجمعيات المتقاعدين العسكريين والمدنيين من أن آلية العمل السلمي والمدني في التصدي للظلم والفساد هو التي ستفتح لهم أبواب الانتصار والدعم والتأييد من جميع القوى الداخلية والخارجية بينما لا تعي السلطة مدى الأخطاء والجرائم الجسيمة التي تتوالى في ارتكابها منذ حرب 1994م مما يعرض الأمن والسلم الدوليين في المنطقة للخطر. ومما يزيد من تعميق احتقان الموقف وانتهاك حقوق الإنسان اعتقال السلطة قيادات وطنية حركت عجلات مطالب أبناء الجنوب التي باتت تسير بسرعة تتجاوز قدرة السلطة على تطويقها واحتوائها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى