..على نار هادئة

> أديب قاسم:

> عدن، وكانت مدينة الطبقة المتوسطة فقط ومعها البرجوازية الصغيرة، تعيش - اليوم - وفي فمها مرارة الاندجار، ولسعة الفقر الجنوبي، ولوعة التمييز منذ أن أصبحت «القبيلة» تقف على رأس الهرم الطبقي، الركيزة السياسية لدولة الوحدة!.. تماهت صورة الشعب.. وغابت عدن الطامحة إلى (النجاح في الأعمال).. كشيء يخصها عندما شرعت بالانفتاح على العالم- وقد أصبحت منطقى بائسة بعد أن ابتلعتها مدن الجوار البعيدة.. وما تزال تشعر بالاندجار كالجنوب الأمريكي، شعوراً لا يضارعها فيه أي جزء آخر من أجزاء جزيرة العرب.

كان سكان عدن (الجنوب) قد وجدوا أنفسهم، عقب الاستقلال، بين النظرة الرومانتيكية لماضيهم الخاص بهم، وبين الحقيقة الواقعة المتمثلة في بؤس حاضرهم.. يشعرون بالحنين إلى الماضي (الحر) السعيد بانفتاحهم على العالم.. وقد اعتادوا التحديق في البحر إذ يعتبرون أنفسهم بحارة على الأرض حيث يعيشون فوق جزيرتهم.. يتطلعون صوب أنوار بعيدة تشرق من نوافذ السفن، وتذهب نظرتهم بعيداًً خلف الأفق حيث تذهب وتجيء إليهم مدن مزدهرة.. وفي انتظار سفينة تحملهم إلى الغرب أو إلى الهند والصين واليابان وجزر شرق آسيا أو إلى أعماق أفريقيا وأنهارها.. وتعيدهم مع إشراقة شمس.

وإن بإمكان الروائي (اليوم) أن يكتب، وهو مطمئن إلى هذه المشاعر الإنسانية الطيبة، عن مدينة تعيش على هامش عريض من البحر الذي يحتضنها بيديه المفتوحتين على شكل قوس فاتحاً الطريق لأرض قادمة جعلت تزحف صوب عدن، بعد أن تطامنت إلى جوارها القريب .. وإذا بها حتى باب المندب أو (Gate of Tears) بوبة الدموع تشهد حمى الاتجار بالأراضي ومضاربات السوق التي افترشها (الوافدون) دون السكان المقيمين من أهالي عدن، إذ استولوا على الأرض وشيدوا العمارات والمحلات التجارية الكبيرة بشكل منسجم مع المادية الرأسمالية وجشعها إلى الدولار المهيمن على العصر فلم تترك فراغا للبحر ولا للنجوم ولا للقمر ولا للشعر وسحر العلاقات الأسرية الدافئ.

وغدت عدن تجلس على نار هادئة يظهر لنا من خلالها عدم ثقة واضحة بكل أشكال التعمق الفكري.. وبأغلب أشكال التوحد الاستيطاني.. وجزء من موضوعها (الجنوبي) مازال يختفي داخل الروح بشكل رومانسي عذب (إنساني) وسط حالات الاستلاب والإغراب، وحيث إن عدم الثقة تبين لنا أن (إخواننا) الشماليين بدوا لنا من خلال هذه النار الهادئة (أغراباً) ما جاءوا لينشروا العدل والحرية والإخاء والمساواة التي نادت بها الثورة اليمنية وجميع الثورات منذ الثورة الروسية بل منذ الثورة الفرنسية 1789 التي حملت تلك المبادئ.. وكذلك التي بشر بها المشروع الوطني للوحدة!!

ما جاءوا ليخرجونا من تحت أو خلف الستار الحديدي ولا حتى: ?{?وكنتم على شفا حفرة من النار فألف الله بين قلوبكم وصرتم بنعمته إخوانا?}?.. بل للنهب والسلب والاستيلاء على أملاك الناس، والاحتلال (للوظيفة والأرزاق والسكن) عن طريق السطو المنظم بشكل ديموجرافي.. وبهدف طمس هوية عدن، أي أنهم جاءوا لاغتصاب التراب والثقافة والإنسان عن طريق إقصاء الآخر!

في عدن كنا (نحن ومعنا الجنوبيون كلٌ جميعاً One and all) نعتقد أن (أهل الشمال) في سدر مخضود وطلح منضود.. قد جاءوا إلى (أهل اليمين) والمسألة هنا معكوسة- جاءوا إلينا يحملون أفكاراً ما لم تكن تقدمية فهي إنسانية (تنويرية) اعتماداً على الليبرالية الديمقراطية التي دعمت السوق الحرة، فإذا بها ديمقراطية الأقلية من الملاك أصحاب المصلحة (أغنياء حرب).. فليست هذه هي ما تسمى بـ«الديمقراطية الحقة أو السليمة» كما يعرفها العالم الحر الشريف.. إنها (حرية) زائفة كاذبة مستغلة أضعفت الجانب (الاجتماعي) الوحدوي ممن تجمعت بأيديهم الثروة والسلطة بهدف إخضاع مواطني الجنوب في نوع من الثأر القبلي المفتوح على نحو إقليمي - عنصرى فداست على شرف الإنسان وكرامته. ويكذب من يدعي أن الوحدة السياسية لنظام الحكم القائم هي: الشعب!

فما عدنا مواطنين.. ولا حتى رعايا!.. ومن هنا جعل المواطن الجنوبي يصرخ في ساحة الحرية:«وطني عدن» للدلالة على دولة انهارت وأصبحت غنيمة.

إن العدني (وكل جنوبي) قد يحترم ويحب عدوه، ولكنه يكره (العنصريين) المرابطين في بلاده، لأنهم يرمزون للضغط والاحتلال والقهر والتسلط وتقييد حريته.. ألا يدعون أنهم المنتصرون في الحرب؟

هذا يكفي لكي يكرههم إذ إن هذا النصر يدل على أنهم شيء من خارج وطنه الصغير عدن (أو كان وطنه الكبير قبل الوحدة: الجنوب الديمقراطي الشعبي- أم الجنوب العربي).. وشيء متغطرس منتفخ بأنه صاحب سلطة: إنه السيد!

إن التخلي عن المسؤولية الأخلاقية والسياسية والتاريخية لدى السلطة (في دولة الوحدة).. وفي زمن الاستبداد.. زمن الحب والكوليرا، هو الذي يكرس الفساد ويخلع الانكسار على الشرعية الملفقة.

قال الشاعر:

إذا دام هذا ولم تحدث له غِيَرٌ

لم يُبكَ ميتٌ ولم يُفرح بمولود

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى