أحمد محفوظ عمر من التقليدية إلى التحديثة القصة اليمنية الجديدة

> «الأيام» شهاب القاضي:

> يظل على الدوام الأديب القاص الرائد الكبير أحمد محفوظ عمر، قريباً من نبض الكلمة الشعبية، أو ذلك الخيط الرفيع الذي يجعل فعل القص هو جذر التماهي الوحيد مع بوح الإنسان الخاص وهو يستدعي زمنيته الغائرة في تحولات الأشياء والكائنات والتي لا تتوقف وإنما هي في سيرورة لا تنتهي، من ماض ترشح منه ألوان الطفولة وعبق المكان إلى حاضر يمسك بتلابيب اللا يقين والزيف ووعورة الحياة إلى مستقبل ترنو إليه المآقي وهو يبدو مبهماً عصياً تطارده مجانيته.

مطلع عقد الخمسينات من القرن الفائت بدأ يراعه ينحو نحو فن القصة القصيرة، جاعلاً منها صنواً للروح التي تضج بين جنبات جسده النحيل، وبالحيوية والعنفوان وبالجمال الخلاق فتميز عنده أسلوب القص ونحا متفرداً في رؤيته للعالم عن نظرائه في اليمن وبين الكتاب العرب.

وعلى هذا السياق يسرني كثيراً أن أستعرض الدراسة التي صدرت باللغة الروسية في مجلة «البشير» الصادرة عن جامعة بطرسبورج عام 2005، سلسلة رقم (4) إصدار رقم (2) بقلم: د. ميخائيل سوفوروف وهي بعنوان: «أحمد محفوظ عمر من التقليدية إلى التحديث» أو «القصة اليمنية الجديدة» وقد نشرتها مجلة «الثقافة» الصادرة عن وزارة الثقافة والسياحة - الجمهورية اليمنية (العدد 79 يوليو 2007، السنة السادسة عشرة).

البدايات: التحدي في الاستمرارية

أحمد محفوظ عمر، أحد الكتاب الذي كان طريقه الإبداعي يوضح اتجاهات التطور الفني للقصة اليمنية منذ أواسط 1950م حتى نهاية 1970م.ولد الكاتب في ضاحية عدن - مدينة الشيخ عثمان عام 1936وقد كان في المرحلة الثانوية مهتماً بالفن الأدبي وكان يقرأ كثيراً ولا سيما للكتاب اليمنيين الذين كانت كتاباتهم تنشر في المجلات والصحف العدنية.. وللتدليل على ذلك، فقد كان أول من أرسل رسالة تهنئة إلى الأستاذ محمد سعيد مسواط رائد التوجه الحقيقي للسرد اليمني، الذي فاز في مسابقة لأحسن قصة في صحيفة «النهضة» عام (1954).

بعد ذلك بعام كتب أحمد محفوظ عمر قصته الأولى «ضحية الوطن» التي نشرها في صحيفة «النهضة» في صفحة الطلاب، وفي العام نفسه تم نشر قصته الثانية «القبر الضائع» في الصحيفة نفسها.وقد نشرت الصحيفة مقالة تشجيعية عن هذا الكاتب المبتدئ متنبئة له بمستقبل أدبي باهر. وبعد تخرجه في الثانوية عام 1956، عمل مدرساً وكان قد قبل حينها كموظف حكومي مدني في القسم الثقافي في الجيش الفيدرالي في جنوب الجزيرة العربية.

استمر أحمد محفوظ عمر في الكتابة، وبحلول عام 1960م كان قد نشر (14) قصة من قصصه في الصحف العدنية، ثماني قصص منها، جمعت في مجموعة قصصية بعنوان «الإنذار الممزق» التي نشرت في العام نفسه.. وهناك أربع من قصصه قد نشرت متأخرة (1961)، (1966) وأيضاً قصة «حساب الشعب» المكتوبة عام 1959م والتي جمعت في مجموعة واحدة اسمها «الناب الأزرق» صدرت عام 1980م.

الكتابة السردية الأولى: تأسيس وانطلاق

في مجموعتيه القصصيتين «الإنذار الممزق» و«الناب الأزرق» تتكشف مرحلة الإبداع الأولى للكاتب ونزعات التطور الفني للقصة اليمنية للفترة من 1950 - 1960. رغم أن كتاباته من الناحية الفنية في مجموعة «الإنذار الممزق» لم تتفوق على كتابات الأدباء من نهاية 1940 وحتى بداية 1950 مثل: أحمد خليفة، أحمد شريف الرفاعي ومحسن خليفة الذين طبعوا قصصهم بالطابع الوطني العدني واليمني الجنوبي، وأيضاً بوجهة نظر الكاتب الاجتماعية الجديدة عن مشاكل المجتمع الأخلاقية.

مس الكاتب متتبعاً الطريقة السائدة في الكتابة في خمس من قصصه العيوب الأخلاقية مثل «أبونا علي، جريرة العدل، مسألة كرامة، خطيئة زينب» وحالة السكر في قصة «لعنة الكأس».قصتان في هذه المجموعة عكستا الحالة القومية الوطنية للنصف الثاني من عام 1950 فهما صورة نموذجية للسرد السياسي في ذلك الزمان مثل قصص الكتاب: عبدالله باوزير، محمد عبدالوالي، كمال حيدر، إبراهيم الكاف، وعلي باذيب. في المجموعة الثانية «الناب الأزرق» يهتم الكاتب بالقضايا الوطنية، وتفوقت هذه المجموعة في مستواها الفني على المجموعة الأولى مما يدل على تفوق الكاتب فنياً في السنوات العشر الأخيرة. في قصصه الجديدة تمكن أحمد محفوظ عمر من دراسة وتحسين شخصيات الأبطال وإدراجها في سياق القصة الواقعية الاشتراكية.. إحدى قصص المجموعة «حساب الشعب» يظهر فيها الكاتب شخصاً يستغل الناس للوصول إلى مبتغاه، وعند وصوله إلى السلطة ينسى هذا الرجل نهائياً ما يحتاجه الناخبون ونتيجة لذaلك يخسر الانتخابات التالية. القصة تنتهي بمشهد يلخص الفكرة الرئيسة: بعدما هزم في الانتخابات يبصق بطل القصة في وجه امرأة شتمته بسبب رفضه مساعدتها عندما كان في مجلس النواب ولكن بسبب الريح تصيبه البصقة هو.في قصة «البيت السعيد» يروي الكاتب كيف يوصل الإذلال المستمر للإنسان إلى حالة عندها لا يوجد للإنسان أي شيء يخسره في حياته ويتحول إلى متمرد مستعد لفعل أي شيء.. بطل القصة برأي النقاد أصبح مثالاً لشعب الجنوب، جنوب اليمن الذي كان يرزح تحت الاستعمار البريطاني.

الأجراس الصامتة: وقع الخطى الثابتة

بعد استقلال جنوب اليمن، قدم أحمد محفوظ عمر استقالته من الجيش في عام 1969م وعمل مدرساً حيث يبدو أن الحياة في اليمن الاشتراكية الجديدة، أدت إلى خيبة أمل لدى الكاتب وأظهرت روح التشاؤم واليأس في أدبه. في عام 1974م أصدر المجموعة الجديدة «الأجراس الصامتة» قصص هذه المجموعة تميزت بلغتها الفنية والتركيبية المعدة بدقة مع انتقاله السريع من مشهد إلى آخر، من خيال البطل إلى الواقع، من الواقع إلى الذكريات والمناجاة الداخلية العاطفية التي تتحول إلى تيار المشاعر بفكره الفلسفي العميق مع اختلاف نوعية المشاهد، من المدونات اليومية إلى الصور والمشاهد الرمزية.

برأي جونتر أورت، الكاتب والباحث الفني الألماني، أن الحياة الصعبة والمليئة بالمتاعب حولت أبطال هذه القصص إلى أناس معزولين عن الحياة الاجتماعية.. إذ إن قوة الملاحظة لدى الكاتب وإدراكه الحاد للحقيقة والكذب حولت المشاهد الدنيوية البسيطة في قصصه إلى تحف فنية صغيرة عن طريق التفاصيل الدقيقة في كتاباته مما مكن الكاتب من كشف المشاكل اليومية في المجتمع المرتبطة بالوضع الاقتصادي والسياسي الصعب في البلاد، ففي قصة «الليل الطويل» يقدم البطل نفسه كالنجم الضائع بين ملايين النجوم المتجولة بحرية في الفضاء الأبدي.. وفي قصة «الأجراس الصامتة» نرى البطل يصل إلى مرحلة الاختلال العقلي حيث يعتبر الطبيب أسباب مرضه هو إدمان القات، والأدوية المهدئة والتـأثر الدائم بالمشاكل العالمية، فمثلاً هو يفكر:«أن شبابنا تعبوا في القتال من أجل الحصول على لقمة العيش، تعبوا في محاولاتهم المتواصلة في التغلب على مخاوفهم من المستقبل الغامض» وهنا يقدم الكاتب فكرة اعتراضية حول عدم كمال العالم الحقيقي التي عرفها بانتقال الإنسان إلى عالم الأوهام.. هذه الفكرة المنتشرة في ثقافة وآداب الغرب في الستينات.تعرض الكاتب للنقد في مجموعة «الأجراس الصامتة» واتهم بتعبيره عن الواقع بطريقة سلبية ولكن بارعة، وفي الوقت نفسه قال الكثيرون إن الكاتب نقل لنا حالة اليمنيين النفسية كما كانت بالفعل في السبعينات.

يا أهل هذا الجبل: تمظهر السارد حداثياً تجريبياً

انتقل الأديب أحمد محفوظ عمر عام 1975 للعمل في مركز البحوث التربوية وأصبح مديراً لتحرير صحيفة «التربية الجديدة» وخلال عمله هناك أصدر مجموعته الجديدة «يا أهل هذا الجبل» في عام 1978م التي لقيت تقديراً ليس فقط من قبل النقاد اليمنيين، ولكن من قبل نقاد كثيرين من البلدان العربية.

كتب الأديب اليمني د. عبدالعزيز المقالح: في قصص هذه المجموعة قد وصل الكاتب إلى قمة الكمال الفني واتفق الكل على أن أحمد محفوظ عمر تمكن من تحديث السرد اليمني بالفعل وأثبت مكانته الأدبية «كتجريبي» مقدماً لكل القراء شيئاً جديداً في الأدب اليمني كفنان متمكن.. قصص المجموعة تكتسي بالهيئة الرمزية التغييرية أو السريالية.. الأحداث في هذه القصص تكون في المرتبة الثانية بينما يعطي الكاتب محلاً أول للأفكار المظلمة والأحاسيس والخيال وحتى الهلوسة.. بهذه الطريقة أعطى الكاتب إضاءة لموضة «التشاؤم» الحديثة التي أحاطت في الستينات كل الأدب العربي ومسّ بعض أدباء الواقعية، فليس من الغريب أن فن أحمد محفوظ عمر حظي بكل التقدير من الكاتب المصري المعروف يوسف الشاروني الذي اعتبر أحمد محفوظ عمر أحسن قاص يمني.

يتحدث الكاتب في قصص هذه المجموعة عن مشكلة العزلة الموصلة للجنون مثل:«هوامش وأبعاد، انظر ماذا ترى، العيون الملطخة بالطين، الطنين والتنين، ويا أهل هذا الجبل» ففي هذه القصص وضع أحمد محفوظ عمر صوراً غامضة وغير محددة والتي لم يفلح أي من النقاد في الحكم على معناها.

وقد أشار جونتر أورت إلى أن الشعور بالعزلة والوحدة في مؤلفات أحمد محفوظ عمر تتجاوب مع الانفعالات المشابهة للأبطال المهاجرين في أحد مؤلفات كاتب يمني آخر هو محمد عبدالولي، ولكنهم يملكون الكثير من الاختلافات المبدئية، أبطال الكاتب عبدالولي يعانون من الوحدة، وعدم فهم الغير لهم بسبب عيشهم في مجتمع تختلف تقاليده عن تقاليد المجتمع اليمني... أما أبطال الكاتب أحمد محفوظ عمر، فهم وحيدون في مجتمعهم بسبب حياتهم المشوشة، وعيوب المجتمع الأخلاقية والسياسية ويرى بعض النقاد في قصصه تفسيراً لقدر الإنسان العربي في الحياة المعاصرة، وتم اعتبار أحمد محفوظ عمر رائد التحديث في السرد العربي واليمني الذي تبعه الكثير من الكتاب اليمنيين مثل إبراهيم الكاف، زيد مطيع، ميفع عبدالرحمن، علي صالح عبدالله، كمال الدين محمد، محمد صالح حيدرة وآخرين.

في عام 1989م أصدر أحمد محفوظ كتاب مذكرات تحت عنوان «قطرات من حبر ملون» يروي لنا فيها حياة سكان الشيخ عثمان أيام طفولته، يتحدث عن أحداث مختلفة في حياة المواطنين العائلية والاجتماعية، وعن بعض الأحداث البارزة من تاريخ مدينته، كذلك تكلم الكاتب عن شغفه الأدبي وذكر بعض أسماء كتابه المفضلين مثل نجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا.

وفي عام 2000 تقاعد أحمد محفوظ عمر، ولكنه لا يزال مستمراً في الكتابة، وهو في انتظار إصدار مجموعته الجديدة تحت عنوان «أبيع الفل ياشاري» وكذلك روايتي:«مبادئ لا تباع» و«رسائل إلى من لايهمه الأمر».

أحمد محفوظ عمر، عضو مؤسس لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ورئيس شرف لنادي القصة «المقه».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى