قطوف من ديمقراطية حضرموت في القرن الماضي (8):لقاءات وآراء لصناعة السلام بحضرموت بين السلاطين والإنجليز والمواطنين ..لجنة أمان حضرموت ومعاهدات الصلح بين أكثر من ألف شخصية

> «الأيام» علوي بن سميط:

>
من اجتماعات الصلح مع القبائل في حضرموت عام 1937م
من اجتماعات الصلح مع القبائل في حضرموت عام 1937م
في ثلاثينات القرن الماضي ازدادت أعمال وأفعال تهدد الاستقرار بحضرموت وتصاعدت حدة الفتن بين القبائل وبدأ شبح الخوف يخيم على بقاع السلطنتين آنذاك (الكثيرية والقعيطية)، وجراء الانفلات الذي لم تستطع السلطنتان تطويقه، وخوفاً من التفتت كان لا بد من دراسة وبحث هذه المشاكل وإيجاد حل أو على الأقل تهدئة الأمور سواء من السلطات أو شخصيات يهمها إيقاف تلك الظواهر المخلة بالأمن وبالسلم العام، كما أن السلطات ايضاً لم تستطع تخفيف هذا الوضع عسكرياً أو بالقوة لعدم وجود قوة كافية من جهة القعيطي واعتماد الكثيري على رجال القبائل.

التفاقم في المسألة الأمنية تطلب العمل باتجاه معرفة المشكلة والاستماع للآراء، فالسلطانان الكثيري والقعيطي تبادلا الآراء فيما بينهما عن كيفية الإصلاح الأمني ما بين القبائل واعتبرا هذه القضية شأناً يهمهما وليس على كل سلطان أن يخمد المشاكل لوحده وضمن أراضي سلطنته بل سعيا مشتركين للبحث عن حلول إثر حوادث الثأر بين أفراد قبيلة واحدة أو فخذ وآخر ينتميان لذات القبيلة.. وأمام هذا برزت الحاجة لوجود دعم أيضاً في الحلول يكون من قوة سياسية كبيرة، وهو ما حصل عندما زار حضرموت السيد برنارد رايلي حاكم عدن الذي استشف الأوضاع والتقى في 1933 بالسلاطين والأشخاص وعاد ليقول إن الناس هناك بحاجة للمساعدة وضبط الأمور.

أنجرامز والقعيطي وبن حبريش

وصل إلى حضرموت هارولد أنجرامز، المستشار الإنجليزي المعروف في 16 نوفمبر 1936م مكلفاً من حكومته لمساعدة السلطات في السلطنتين وإمكانية إيجاد حلول للمشاكل سيما وأن لديه معرفة بالأوضاع في زيارته الأولى عام 34م، وفي هذه الزيارة الثانية العملية والمباشرة سياسياً 36م وصل كما ذكرنا في نوفمبر إلى المكلا وصادف ذلك أول يوم من شهر رمضان فكانت لقاءاته بالسلطان صالح بن غالب القعيطي خلال النهار ليتدارس معه كافة الأمور كما يلتقي بالمساء مع الناس والشخصيات الأخرى غير الحكومية لمعرفة الآراء حول مختلف القضايا، ويذكر أنجرامز أنه شعر بأن السلطان يرنو لإصلاح أمور السلطنة وإيجاد التنمية وإقامة مؤسسات والذي سوف يعكس نتائج طبيعية للاستقرار.

ويذكر أيضاً أن من قابلهم في المكلا متذمرون وساخطون من عموم الحالة، ولكنهم يرغبون في إيجاد مناخات أقوى للاستقرار. بعد أسبوعين توجه المستشار إلى وادي حضرموت ووصل مدينة تريم ليلتقي بالسلطان علي بن المنصور الكثيري والسيد أبوبكر بن شيخ الكاف اللذين وصلا من سيئون، ويذكر أنهما طرحا عليه أنه من الضرورة عمل شيء لقطع دابر القتل واللصوصية.. كما التقى بالسلطانين وأبوبكر الكاف الذي كان له دور وآخرين قبل وصول أنجرامز حضرموت في محاولات للصلح بين القبائل، والتقى انجرامز أيضاً بأشهر زعماء القبائل وهو المقدم علي بن حبريش في إطار هذه المهمة، ويصف اللقاء في محاضرة له ألقاها عام 1939م أمام أعضاء الجمعية الآسيوية الملكية بالمملكة المتحدة شارحاً كيفية تحقيق مهمة استبباب الأمن بحضرموت، وقد نشرت المحاضرة كما قام بترجمتها المؤرخ محمد بن هاشم في مجلة «الإخاء»، ويستعيد انجرامز لقاءه بزعيم قبيلة الحموم في عام 36م بالقول:

«التقيت بشخصية معتبرة وهو علي بن حبريش أعظم رئيس للحموم وقد جاء مع جماعة من أتباعه ليقابلني على انفراد بتريم، والحموم قبيلة عظيمة تنيف عن 7000 مقاتل ومنذ أمد لم تكن على صفاء مع القعيطي ولا شك أن حكومة القعيطي قد كابدت منهم الامرين والحموم بدون ريب كانوا يتحصلون على معاملة من الحكومة سيئة لا تقتضيها السياسة» لعل الخلاف بين القبيلة والحكومة القعيطية إثر مقتل عدد من زعمائهم ووالد المقدم علي بن حبريش غدراً في عشرينيات القرن الماضي. ويستطرد في محاضرته ما ذكره بن حبريش إذ أنه بمثابة رأي حول الوضع الأمني، كما أن القارئ سيقف أمام تحليل قدمه زعيم قبلي من حضرموت وسيدرك ايضاً أن القبائل تقبل بالأمن وتطمح للأمان شريطة توفير الاحتياجات (التنمية).. والرأي الذي قاله بن حبريش لأنجرامز لخصه في: «أنا لا أحب حكومة القعيطي لأنها تظلمني» هكذا قال بن حبريش مقدم قبيلة الحموم، مضيفاً: «إنهم يعتبروننا بدواً متوحشين، إنهم يعاملوننا معاملة البهايم ويعوقوننا عن شغلنا الحيوي وهو إيصالنا الحاجيات من الثغر إلى الداخل وأنا أيضاً لا أريد حكومة الكثيري لأنه ليس لديه قوة تساعدني عند الحاجة ولا أرتاح إلى حكومة الإنقليز لأنني لا أعرف عنهم شيئاً غير أنهم أصدقاء القعيطي وسيساعدونه ضدي ولا يفيدونني شيئاً، وقد سمعت بقدومك - مخاطباً انجرامز- وإنك ترغب في إقامة الأمن بحضرموت فهل تريد أن تحميني بحيث أتمكن من الحصول على ميناء ببلادي يكون ملكاً لي وحينئذ ننال معيشتنا بهناء أما إذا كنت لا تضمن لي ذلك فإنني سأبحث عن حكومة أخرى». (مجلة «الإخاء» بتريم ص9 يوليو 1940).

وفي سيئون كثف أنجرامز من لقاءاته مع السلطان ومع أبوبكر بن شيخ الكاف، الذي قال عنه إنه يبذل منذ عشرين عاماً عمليات للإصلاح وتثبيت الأمان ولديه إلمام بكل الشخصيات التي يمكن أن تساعد على إيجاد الاستقرار كالسلطان علي بن صلاح القعيطي حاكم شبام، الذي التقاه انجرامز ورحب بالمهمة. وفي ديار آل البقري غرب حضرموت وعلى الطرق المتجهة نحو مثاوي قبيلة نهد كان الناس يقابلون أنجرامز ويؤكدون الحاجة لايجاد الأمن والأمان وهكذا حال سكان حريضة ووادي عمد ومطالبتهم التعجيل بوضع حد للاضطرابات، كما تدارس المستشار انجرامز مع الشيخ سالم بن جعفر بن طالب الكثيري بمنطقة العقدة جنوب شبام مدخل وادي بن علي كيفية العمل على التحرك الفعلي لإنجاز هدف تحقيق الأمن خصوصاً وأنه أيضا مثله والكاف وعلي بن صلاح لديهم خبرات سابقة في إبرام اتفاقات صلح بين القبائل.

تعددت اللقاءات بين السلطنتين وكثرت زيارات أنجرامز للمرتفعات الجبلية والوديان الفرعية والاستماع للآراء، وتحركت القبائل فيما بينهما في مفاوضات سلام بغرض نبذ العنف، وإجراء الحوار فيما بينها عند نشوء أي مشكلة وكذا الامتثال للدولتين القعيطية والكثيرية، واقترح أنجرامز تكوين لجنة لمتابعة استقرار السلم الاجتماعي والبحث في المشاكل ومعالجة الصراعات القبلية كالثأر والنزاعات وسميت اللجنة (لجنة أمان حضرموت) وصدر بذلك لوائح تنظم عملها وعمل اللجان الفرعية التابعة لها، ونجحت جهود السلطان صالح بن غالب وعلي بن المنصور ودعم وتحركات ومفاوضات الكاف وعلي بن صلاح وسالم بن جعفر ومعهم أنجرامز في ترويج مشروع الأمن والسلام بحضرموت وكللت بالنجاح بعد أن تبين لهم أن الجميع في الصحراء والمدن والمرتفعات ينشدون السلام ويرغبون بإقامة النظام والامتثال للقوانين، وأن مثل هذا المشروع يفترض أن يكون قبل هذه الفترة ليتفرغ الناس لشؤونهم وتنمية مناطقهم وعدم تركهم عرضة للصراعات التي تفاقمت وأضحى الشك والتربص سمة القبيلة، وظهر أن الناس محبة للأمان مادام التعامل معهم مهما كان حجم المشكلة بالتروي وبالحوار، أما التعامل معهم بالقوة فهو الذي ينجم منه تعدد المشاكل إلا ان القوة أيضاً استخدمت لضرب قبيلة آل يماني فرع من القبيلة الأم (الجابري) بالطائرات في يناير1937م «لمدة ثلاث أيام حتى استسلموا وتمت مراسيم التسليم في سيئون بحضور أنجرامز والسلطان علي بن صلاح وزعماء وأعيان الكثيري» (كتاب السلطان علي بن صلاح القعيطي ص 64، ط الثانية، المؤلف د. محمد القدال/ عبدالعزيز القعيطي).

أسباب ضرب هذه القبيلة هو قيامها بإطلاق نار على ضابط بريطاني يدعي بيتش على طريق ساه تريم فاستدعي عقالها إلى سيئون وحكم السلطان الكثيري وبحضور انجرامز بأن يدفعوا غرامة جراء هذا العمل وأمهلوا فترة للدفع، ولما انقضت اتخذ هذا الإجراء بحقهم، إلى جانب أن السلطات ترى أن في قيامهم بهذا الفعل تهديداً لمشروع السلام والأمان الذي بدأت قبائل حضرموت بالتوقيع عليه، كما تحرك إلى المناطق البعيدة كل من: أبوبكر الكاف، علي بن صلاح القعيطي وعلي بن صالح بن ثابت النهدي لإتمام توقيعات القبائل.

فرشبح الخوف من حضرموت

بدأ النجاح لمشروع أمان حضرموت بقيام أكثر من 1200شخصية تمثل قبائل حضرموت من كل منطقة بعضهم وقع على مجموعة قليلة من قبيلة كثيرة العدد كما وقع مقادمة فخائذ قبلية والكل سعى إلى طريق السلام، وكانت الخطوة الأولى هي ثلاث سنوات لهذا الصلح الذي صنعه الحضارمة بأنفسهم، وفي الوقت ذاته كان التفكير من قبل المستشار أنجرامز بإيجاد قوة لحماية هذا الأمن ولأغراض أخرى، وذلك بتكوين جيش البادية الحضرمية فعلياً أواخر 1939م، ويذكر انجرامز الهدف من إنشائه:

«كان واضحاً أن البلاد إذا ما أرادت أن تسير في طريق التجمع والتماسك وتحقيق الأمن والإدارة المنظمة والعدالة المقبولة فإن السلطنتين لن تتمكنا من إدارة ذلك من مواردهما، فقد كانت قوات أمنهما مشغولة كلية بحفظ النظام في طريق المناطق السهلة، وعليه فقد اقترحت إنشاء قوه بدوية لتأمين المناطق النائية» (التاريخ العسكري لليمن 1839م- 1967م، سلطان ناجي، ط88م، ص 170).

وهكذا فإن إحلال السلام في حضرموت في الثلاثينات فيه جزئية من أسلوب ديمقراطية تمثل ولو بسماع آراء الناس من جهة وحوار القبائل فيما بينهما ورغبة السلطات في إيجاد الاستقرار وإن كان لكل طرف نظرة في تحقيق هذا الهدف تنطلق من مصالحة، إلا أنه -أي هذا الصلح - جاءت ثماره بعد سنوات إذ جلب الاستقرار مزيداً من التفكير لدى الحضارم لصناعة مؤسسات مدنية وبأمان أيضاً أحيانا تشوبه بعض الأخطاء ثم يصحح ويطور.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى