«الأيام» تستطلع أحوال أهالي بشرية ..منطقة تجمع بين جمال الطبيعة الخلابة وقساوة العيش

> «الأيام» محمد مرشد عقابي:

>
في أقصى الشمال الغربي من مدينة المسيمير، تسكن منطقة (بشرية) المحروسة بسياج جبلي صلب، وعلى متن تلك الجبال العالية والوعرة تعلق منازلها الجميلة وكأنها درر ذهبية، تقع هذه المنطقة بين ثنايا تلك الطبيعة القاسية، ومنها تقتبس آيات الجمال، منطقة تعاني افتقار أبسط المشاريع، المعاناة تتوغل في نفوس أطفالها قبل كبارها لترتسم على وجوههم مغيرة ملامح جمال وبراءة الطفولة إلى أحزان دفينة ومكبوتة لا يستطيعون البوح بها لكثرة تراكمها عليهم أعواماً عديدة. «الأيام« كان لها يد طولى في معاينة واقع المنطقة المعاش، لتتفحصه عن كثب، وتنقله في سطور لتساعد بذلك وتقرب طرق وأساليب علاج آهات المنطقة لمن هو ملزم، فإلى ما تحمله هذه السطور من معان:

ألوان من المعاناة تتجسد في واقع المنطقة

(بشرية) تلك المنطقة الملفوفة بالجمال الطبيعي والمحفوفة بالإهمال الأزلي، مازالت تغوص في بركة النسيان والإجحاف، أهاليها يكابدون مرارة وقساوة العيش يومياً، منطقة محرومة من بزوغ شمس المشاريع الخدمية على أراضيها، وأهاليها يعتمدون على تربية ورعي الأغنام والزراعة في سبيل توفير لقمة العيش، وأما أساس الحياة (الماء) فحدث ولا حرج، فالمنطقة تعتمد اعتماداً كلياً على مياه وادي (تبن) المحملة بجميع عوائل الديدان الخيطية والشريطية وأصناف الطفيليات المرئية وغير المرئية، إنها بعض الحقائق المرة التي يتلوى تحت سياطها أهالي المنطقة، وجزء من المآسي التي تعذب بها سكان المنطقة. «الأيام» استطلعت وضعها عن قرب ملامسة بذلك جراحها الغائرة الدامية التي لم تندمل منذ طلوع فجر (الوحدة) إلى يومنا هذا، وعند نزولنا إلى المنطقة كان شيخ المنطقة د. عبدالقوي السيد صالح في مقدمة المرحبين بـ«الأيام» وذلك بابتسامة عريضة ارتسمت على محياه، كتعبير عن مدى الحب المغروس في نفسه لصحيفة «الأيام»، حيث بادر الشيخ د. عبدالقوي السيد بإعطاء لمحة انطباعية عن واقع المقاساة واحتياج المنطقة إلى المشاريع قائلاً:«إن منطقتنا عانت الأمرين طيلة السنوات الماضية، فلا مشاريع ولا خدمات ولا يحزنون، ومناشداتنا واستغاثاتنا بكل الجهات المعنية للالتفات إلى ما نعانيه لم تجد المجيب ولا المستجيب، ولقد أنهكت كل قوانا في متابعة السلطات المحلية بأن تمنحنا ولو مشروعاً للمياه، لكن كافة تلك المناشدات ذابت في سراب الإهمال». وأردف بالقول:«إن أهالي المنطقة أصبحوا اليوم في حالة يرثى لها كونهم يعتمدون على مياه وادي (تبن) في الشرب وطهو الطعام وغيرها من استخدامات العمل اليومي، وهذه المياه ملوثة بالطحالب ومليئة بالجراثيم والطفيليات». وقال:«إن رقعة الإصابة بالبلهارسيا بين أوساط الأهالي والأطفال تتوسع وتزداد يوماً بعد يوم، وبذلك تكثر البلاوي ويضيق الخناق على المواطن الفقير الذي لا يجد سوى اعتماده على ما يملك من قطعة زراعية ليوفر لقمة العيش له ولأطفاله». وأضاف قائلاً:«إن وسط هذه الظروف القاسية التي لا يجد الموطن منها مخرجاً تصبح حياتنا وحياة أطفالنا في حكم المجهول ، وإن صح التعبير على كف عفريت». وواصل الحديث بالقول: «فوق هذا وذاك فالمنطقة لا يوجد فيها وحدة صحية ، وأصبحت حياة من يمرض منا معلقة بخيط الموت، وذلك كون المنطقة تحرم من وجود طريق فيها وبالتالي صعوبة إنقاذ حياة المريض وإيصاله حياً إلى مستشفى المسيمير». واعتبر في حديثه:«أن الطريق الحالية هي خلاصة المكابدة للأجداد والآباء الذين رسموها بإطارات سياراتهم، وأضحت هي المسلك اليومي لنا إلى عاصمة المديرية لجلب احتياجاتنا الضرورية منها كالمواد الغذائية ومواد البناء وغيرها».

وتطرق قائلاً:«هذه الطريق خطورتها أكثر من فائدتها كونها تخلف يومياً العديد من النكبات والمصائب لأهالي المنطقة بسبب كثرة حوادثها». وأشار في سياق حديثه :«أن كل تلك الكوارث والمصائب التي جناها الناس ويجنونها يوميا من هذه الطريق لم تحرك ذرة ضمير أو رحمة عند المسؤولين بالمديرية وكل الجهات المعنية تجاه ما نعانيه». واستعرض قائلاً:«إن تعامل السلطة مع معاناة واحتياجات كافة مناطق المديرية يدل دلالة واضحة على عدم الاعتراف بوجودنا كآدميين على خارطة الوطن، والثوابت الشاهدة على ذلك هي الغياب التام للمشاريع الحيوية والتنموية من على جميع أراضي المديرية». واختتم حديثه:«بمطالبة كل فاعلي الخير ومحبي الأجر بالنزول إلى المنطقة وإنقاذ أهاليها من الهلاك كما طالب الجهات الرسمية بالمديرية بإعادة حساباتها ومراجعة قراراتها والنظر إلى ما تعانيه المديرية».

مشروع المياه تحول إلى مقبرة لحصد الأرواح والفائز من يملك حماراً

أما عاقل المنطقة عدنان علي صالح فقد بدأ بالحديث إلينا قائلاً:«إن منطقة (بشرية) هي جزء بسيط من مديرية مترامية تغطيها بطانية الإهمال من قمة رأسها إلى أخمص قدميها، (بشرية) جزء لا يتجزأ من مديرية تعيش ملحمة واقعية من المعاناة وأساطير حقيقية من المقاساة». وواصل حديثه قائلاً: «كيف لنا أن نشعر بكياننا الآدمي ونحن نفتقر لأبسط مقومات العيش الكريم؟ وكيف لنا أن نفرق بين أصولنا الآدمية وأصناف الكائنات الأخرى ونحن لا نمتلك أي مشروع حيوي وتنموي يشعرنا بقيمة آدميتنا على تربة أرض وطننا؟»، وأضاف قائلاً:«أين الرحمة؟ وأين العدل؟ وأطفالنا تفتك بهم الأمراض وتمتص براءة ونعومة أجسادهم الديدان والطفيليات، وأين العدل والمواطن في (بشرية) والمسيمير عامة يتجرع يومياً ألوانا من المعاناة والعذاب بشتى صوره ومعاينه». وتساءل بالقول:

«إلى متى سنظل نكابد ما نعانيه؟ وإلى متى سنظل نخفي آلامنا وأحزاننا في صدورنا؟ وإلى متى سنظل نكتم الآهات والأحزان في أحشائنا؟ لا يعلم بحالنا إلا الله»، وتابع حديثه بالقول:«أنه تم اعتماد مشروع مياه للمنطقة قبل عامين بتمويل محلي وتم تسليم المقاول المخصصات للقيام بعمل المشروع وإنجازه، قام المقاول بحفر البئر حوالي (22 مترا) وهرب ولم يكمل المشروع، كل ذلك حصل أمام أعين المسؤولين الذين لم يحركوا ساكناً تجاه هذا الأمر، حيث أصبحت البئر المحفورة (الجب) تهدد حياة المواطنين والأطفال وتزرع الخوف والذعر عند الاقتراب منها كونها تعتبر منزلقا وخندقا، بل مقبرة حقيقية تنتظر حصد الأرواح»، وقال: «قد نفقت نتيجة السقوط فيه العشرات من الأغنام، وأصبح هذا (الجب) بل المقبرة إن صح التعبير شبحاً حقيقياً موجوداً في المنطقة، وخطورته تزداد بعد أن توسعت فوهته وأصبحت خطورته بارزة وظاهرة للعيان وقد قض مضاجع وسكينة الناس، وأزال الأمان وزرع فيهم الخوف على أولادهم من مغبة الوقوع فيه».

مشيرا إلى «أن أحلام المواطنين في المنطقة تبخرت بعد تحول نعمة إنجاز المشروع إلى نقمة، حيث إن المواطنين في المنطقة مازالوا يجلبون مياه وادي تبن للشرب والاستهلاك على ظهور الحمير وأصبح من يملك حماراً في منطقتنا هو الفائز والقادر على الإتيان بالماء».

الطلاب وغياب عوامل وسبل التعليم

أما طلاب وتلاميذ المنطقة فلا يوجد لهم مكان للدارسة فيه سوى مقر جمعية الإحسان، وكذا ملاحقة ظل الأشجار، حيثما ذهب في سبيل تلقي العلم والمعارف، وحول تلك المأساة تحدث إلينا المعلم عدنان عطاء شارحاً بعض فصولها التي يكتوي بها أمل ورجال المستقبل قائلاً:«إن الطلاب في (بشرية) يعانون من عدم توفر مدرسة ليتعلموا فيها».

وأضاف قائلا:«بعد استغاثات ونداءات مستمرة تجاوبت معنا جمعية الإحسان بإعطائنا مقرها لنعلم الأطفال فيه»،وواصل قائلاً:«إن السلطة المحلية بعد مطالبات مستمرة بحت لها الأصوات وجفت لها الألسن، قامت مؤخراً باعتماد بناء مدرسة مازال العمل جارياً فيها». واستطرد قائلا:

«إننا حالياً نعلم الأطفال في مقر جهة غير رسمية، وهي جمعية الإحسان الخيرية التي تبرعت بمقر مكتبها بالمنطقة رحمة منها بالطلاب الذين ذاقوا المتاعب وهم يدرسون تحت الأشجار معرضين للشمس والأتربة والغبار».

مذكراً «أن المقر لم يحتو الطلاب كاملاً بل إن منهم ما يزالون يدرسون تحت الأشجار»، وتابع حديثه قائلاً:«إن التهميش بكامل معانيه قد حل علينا نحن أبناء المسيمير ولا ندري ما السبب وراء كل هذا الإجحاف المسلط منذ فجر الوحدة على مناطق المديرية؟!»، وأبدى استغرابه وتعجبه قائلاً:«لا أدري ما الذي اقترفناه نحن أبناء المسيمير حتى ننال هذا الجزاء ويتم التعامل معنا بهذا الجحود والنسيان من كل المشاريع؟!».

وقال:«كيف يستطيع العقل أن يتقبل وعوداً سنوية روتينية ومتكررة من جانب سلطة أدمنت الرقص على إيقاع الوعود وموسيقى المشاريع وهي أساساً لا تعمل أي شيء؟! وكيف يمكننا أن نتقبل مغالطات اعتدنا عليها حتى نكاد معها نفقد ما بقي لنا من رجاحة عقل وكذا شعيرات على الرأس؟!».

واختتم حديثه بمناشدة كل فاعلي الخير «بالنزول لتلمس أوضاع المنطقة ومعرفة همومها واحتياجات أهاليها، والعمل بالممكن وبما يسر الله لينالوا بإذن الله خير الجزاء»، كما واصل مناشدته «بالمطالبة بتوفير أثاث ومستلزمات لمسجد المنطقة الذي يفتقر لمكبر الصوت وللأفرشة وغيرها من احتياجات المسجد الأساسية والضرورية».

الكثير من أراضينا جرفت ولا نمتلك وسائل للدفاع عما تبقى منها

تعيش أغلبية الأسر في (بشرية) والقرى المتاخمة لها معتمدة اعتماداً شبه كلي على الزراعة كون مردودات المحاصيل تساعد الأهالي على تسيير شؤون حياتهم، وتدبير ضروريات الحياة كشراء المواد الغذائية وغيرها.

فهي تعتبر الأساس في حياة الإنسان في (بشرية) وسبيل الوصول لتوفير لقمة العيش لأهالي المنطقة، وقد تعرضت الأراضي الزراعية في (بشرية) للجرف من قبل سيول هذا الموسم،

وخلفت هذه السيول أضراراً جسيمة بالأراضي كادت معها تفنى جميع المزروعات على تلك الأرض، وحول هذا الجانب تداخل معنا بالحديث المواطن عبدالحبيب حسن قائلاً: «لم يعد لدينا متسع لاحتواء آلامنا وأحزاننا، ولم يعد لدينا قدرة على مكابدة مآسينا وجراحنا».

وأضاف قائلاً:«إن أراضينا الزراعية -وهي أول وآخر آمالنا في العيش والبقاء على وجه الأرض- أصبحت مهددة بالجرف بالكامل والفناء، حيث إن المواطن في المنطقة لا يوجد لديه منفذ آخر يستمد منه أسباب العيش غير اعتماده على أرضه الزراعية التي بسببها تتوفر لقمة عيشه وعيش أطفاله».

وواصل مفردات أحزانه قائلاً:«إننا في منطقة (بشرية) لا نجد من يلتفت لنا وينظر إلى حالنا، وأصبحنا معزولين عن كل شيء ومحرومين من كل شيء؛ فلا ماء ولا كهرباء ولا أي شيء يذكر». وقال:«سلطتنا المحلية غاضة الطرف عنا ولا تكاد تعترف بوجودنا إطلاقاً، فكل المناشدات والاستغاثات إليها ذهبت في طريقها المعتاد وهي سلة المهملات، المليئة بكل ما لذ وطاب من وعود المشاريع المتكررة الكاذبة»، وناشد في ختام حديثه قائلاً:«إننا لا نملك إلا صوت المظلومين «الأيام» لنجمع من خلالها ما بقي لنا من بصيص أمل لإنقاذ ما تبقى من أراضينا الزراعية قبل الفناء والجرف بفعل السيول وإننا عبر صوت الشعب والحق «الأيام» نناشد كل الجهات الخيرة بأن تتعاون معنا بإنزال السدود والحواجز المائية والدفاعية اللازمة للأرض، وذلك لإنقاذ أسر حياتها معلقة ببقاء أراضيها الزراعية بعد أن اصطدمت كل المناشدات والاستغاثات التي أطلقناها في هذا الشأن لسلطتنا المحلية وكل الجهات المعنية بالمديرية بحاجز الإهمال واللامبالاة».

منطقة تئن من الإهمال فهل من مستجيب؟!

اضملحت جميع الأحلام لمستقبل أفضل، وانطوت جميع صفحات الأمل والتطلع عند الأهالي لغد أجمل، فالمآسي تتجدد والآمال تتبدد، ومناشدات واستغاثات المواطن في المنطقة لاتجد إلامجرى الإهمال ،أهالي المنطقة يشكون عدم تجاوب السلطات لمطالبهم وتعاملها معهم بمبادئ ثابتة هي (لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم) وتساءل العديد من المواطنين بالمنطقة قائلين:«إلى متى سنظل نلف وندور في حلقة مفرغة، ومناشداتنا لا تجد طريقها لآذان المسؤولين؟! وإلى متى سنبقى كمن ينفخ في قربة مقطوعة؟!».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى