فهم ماهية الطوبة الطينية للحفاظ على التراث المعماري

> «الأيام» م.ثابت سالم العزب:

> إن الحفاظ على التراث يعني تقصي حقائق ماضية، واستخدام نفس المادة المكونة له في عملية صيانته، وهو حفاظ على الهوية الحضارية والتاريخية، باعتبار العمارة هي أكثر العناصر التاريخية التي تستطيع اختزان الذاكرة والتي من خلالها يتم التعبير الحي في سجلات الزمن عن عادات وتقاليد وأصالة الشعوب، كون ماضي أية أمة هو تراثها وحضارتها، وأي انقطاع للماضي يؤثر بالسلب على الحاضر والمستقبل. يقول المهندس حسن فتحي: «التراث مما لا يلزم أن يرجع إلى ما سبق بزمن طويل، وإنما قد يكون مما بدأ من وقت قصير، فبمجرد أن يجابه أحد العاملين بمشكلة جديدة، ويتخذ قرارا بكيفية التغلب عليها يكون قد اتخذ الخطوة الأولى في إرساء تراث، وعندما يقرر عامل آخر اتخاذ نفس الحل، فإن التراث يكون في حركة، وحيث يتبع رجل ثالث الرجلين الأوليين، ويضيف إسهامه، يصبح التراث، وقد تم إرساؤه إلى حد كبير، والعمارة مازالت من أكثر الفنون تعلقا بالتراث».

إن خبرة اليمنيين في مجال البناء بالطين بالأسلوب التقليدي تعد من أهم الخبرات العالمية نظرا للمخزون الثقافي والحضاري وتراكم تلك الخبرات عبر القرون، إلا أن الطرق التقليدية في الصيانة مرهقة ومكلفة، وستظل جهود جيل المستقبل حائرة أمام جبروت الجيل القديم، وربما تعجز حتى عن الحفاظ على هذا الموروث المعماري القائم ناهيك عن تطويره من دون استيعاب التطور المتسارع في مجال تقنيات البناء الحديثة وبالمواد المحلية المتوفرة بيئيا. إن دراسة واستيعاب المواد المستخدمة في صيانة المباني الطينية، وفي مقدمتها تكوين الطوبة الطينية تعد حجر الزاوية للتراث المعماري، وتحليله وكشف مكامن الضعف واستشفاف مكونات القوة، وذلك من خلال دراسة تجربة البناء المحلية، وإجراء البحوث التطبيقية على مادة الطين والمواد المثبتة الأخرى. لقد تم دراسة مادة الطين من تربة وادي حضرموت في مختبرات جامعة بلجراد الحكومية بعد دراسة متأنية للأسلوب التقليدي المتداول في الوادي، ومن خلال تقدير الكميات واختلاف فترات التخمر كانت النتيجة رفع قوة تحمل الطوبة الطينية التقليدية إلى حوالي خمسة أضعاف قوتها بالأسلوب التقليدي المتداول في تجربة حضرموت، ومن تحسين خواص الطوبة إلى تحسين خواص الجدار الطيني الحامل، كما يجب إجراء البحوث التطبيقية على تحسين مواصفات خلطات المونة في مجال بناء الجدران وتلييسها وطلائها، وبما يضمن تحسين كفاءة الصيانة وتمديد فتراتها المقررة بالطرق التقليدية المعتادة. يقول المهندس سالم رموضة: «إن التراث اليمني يدل على مدى نضوج المعماري اليمني في إيجاد تناغم وتناسق بين البيئة والإنسان، يجب أن يعتبر بمثابة مرتكز حي ودائم، وعلى أساس هذه النظرة الحية إلى التراث يصبح الماضي منطلقا وحافزا وداعما لكل محاولة للتجديد».

منذ (7 - 9) آلاف عام قبل الميلاد عرف الإنسان مادة الطين وتعامل معها، وأضحت اليوم من أهم مواد البناء الأساسية وصلب الصناعات الحديثة (الإسمنت، الطوب، السيراميك، الزجاج.

ومواد الصرف الصحي ناهيك عن الخزف والصناعات الأخرى الكثيرة التي حازت عليها مادة الطين دون غيرها من المواد الأخرى). وقد قال العالم الأوروبي كوينتروكس عام 1790م: «ليس هناك أرخص من المسكن الطيني، الطين الذي يضع كل المواد جانبا، إنه الوحيد الذي يمكن البناء به في كل مكان وفي جميع البلاد، إنه هبة الله لجميع الشعوب». ولم تعد اليوم مادة الطين متخلفة عن ركب الحضارة وتطورها، بل إن هناك دولا كبرى تسير سيرا حثيثا نحو مكننة هذه المادة وتطويرها مثل فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، أمريكا، روسيا، وغيرها أيضا من الدول النامية التي استوعبت أهمية تلك المادة الرخيصة والمتناسبة صحيا مع جسم الإنسان وبيئته.

وقد أبدع اليمنيون وتفننوا فيها وصنعوا أقدم ناطحات السحاب في العالم وهي مدينة (شبام - حضرموت) ومدن تاريخية هامة مثل مدينة سام بن نوح (صنعاء القديمة) ومدن كثيرة تمتد على طول وعرض الجمهورية اليمنية، ومن هذه المدن (زبيد، تريم، لحج، صعدة، شبوة، مأرب، رداع، ومن المباني الحجرية مدينة الثلاء وشبام كوكبان ومباني يافع، وكذا قلاع مناخة وتعز وحجة وغيرها)، هذه المدن التي تعد سجلا حيا للتاريخ البشري يضج بالحياة ويزخر بمفردات البيئة، لقد أضحت متاحف حقيقية مفتوحة للزائرين من مختلف بلدان العام ليروا كنوزا نادرة تمثل الحضارة البشرية وتشهد حركته التاريخية بكل وضوح.

إن الحفاظ على التراث في مجال العمارة مهمة علمية وإنسانية بالغة التعقيد تتطلب الكثير من الجهد والإمكانيات، ولا تكفي الخبرات المتداولة بل يجب الاستفادة من تراكمات تلك التجربة وتقييمها ووضع المعالجات لسلبياتها، وتوفير مواد الصيانة والترميم في متناول يد المستهلك حتى لا يلجأ إلى مواد أخرى بديلة متوفرة ويشوه بذلك الصورة التاريخية لمشهد التراث، وخصوصا في المدن الطينية القديمة، ولما من شأنه تحديث البيت الطيني وتأهيل التراث المعماري ليلبي احتياجات العصر ويستوعب التطور التكنولوجي في مجال البناء الحضري الحديث.

إن مادة الطين من مواد البناء الأساسية وهي مادة معقدة التركيب ومختلفة التكوين والخصائص، وبالرغم من أنها متوفرة في كل مكان وتعد صلب الصناعات الحديثة (كصناعة الإسمنت والطوب والسيراميك ومواد الصرف الصحي الفخارية) وغيرها من صناعة مواد البناء الهامة في مختلف المجالات الصناعية، إلا أن الباحثين لايزالون مستمرين في أبحاثهم نتيجة لتشعب واختلاف أنواع التربة وتمايزها في إطار الموقع الواحد وبما يفرض عليهم من اختلافات جيولوجية في تكوين التربة وعناصر تركيبها المختلفة.

والطين هو المادة التي تتكون من جزيئات متبلورة دقيقة للغاية متكونة من واحد أو أكثر من مجموعة صغيرة من المعادن يطلق عليها اسم المعادن الطينية، وهي سيليكات الألومنيوم المائية، وتتكون التربة نتيجة عملية التعرية- الطبيعية والكيميائية- للصخور.

ثم تنتقل بواسطة الأمطار والرياح إلى مواقع مختلفة على سطح الأرض، وتعتبر المعادن الطينية من أهم تفاعلات التجوية الكيميائية، حيث تشكل مجموعة معقدة من سيليكات الألمنيوم المائية، فصغر حجم دقائق بلوراتها أدى إلى صعوبة دراسة الخصائص البلورية للمعادن المكونة، ولهذا فإن معرفة تلك الخصائص تحتاج إلى ضرورة فحصها بأشعة إكس وكشف علاقتها البنائية والنسيجية بالصور المجهرية الحديثة.

منذ زمن طويل استخدام الإنسان الطين في بناء المساكن والمعابد وتسوير المدن من الطوب الطيني النيئ، ففي القرن الثالث الميلادي تم بناء سور الصين العظيم الذي يبلغ طوله أكثر من 4000 كم وبارتفاع من 6 إلى 10م وعرضه عدة أمتار، وفي القرن الرابع الميلادي تم بناء مدينة شبام التاريخية، حيث تعد أقدم ناطحات سحاب في العالم، وترتفع بعض مبانيها المصنوعة من الطوب التقليدي إلى 9 طوابق، وغيرها من الأمثلة الحيَّة القائمة على طول وعرض الكرة الأرضية.إن البحث العلمي في مجال مادة الطين يجب أن يستند على ركيزتين أساسيتين هما:

1) الاستفادة من الخبرات المحلية والعالمية خلال التاريخ الطويل من استخدام هذه المادة والاطلاع على البحوث السابقة والدراسات والخبرات العملية وتقييم تلك التجارب وتلخيصها لغرض الاستفادة منها بالمقارنة لما سيتم بحثه وأخذ ما يناسب لغرض العمل به.

2) القيام بأعمال تطبيقية تكتنف كل مجالات مادة الطين البنائية والمواد المثبتة لها بما فيها الخصائص الفيزيائية والكيميائية والميكانية، لما فيه الوصول إلى النتيجة المثلى في مجال تطوير الطوبة الطينية بما يتناسب مع المواد المتوفرة محليا ومنها إلى عملية التقييس وتحديد سماكة الجدران الحاملة النموذجية المناسبة مع الجهد التصميمي المطلوب للجدران الحاملة والضوابط الفنية الخاصة بالبيت الطيني.

إن دراسة الموروث في مجال البناء بالطين مهمة علمية تتطلب الكثير من الجهد والإمكانات لغرض الاستفادة من التراكمات لتلك التجربة وتقييمها وتطويرها والحد من سلبيات العمارة الطينية وتحديث البيت الطيني الذي يلبي احتياج العصر ويستوعب التطور التكنولوجي في مجالات البناء الحضري.لم تعد مادة الطين متخلفة عن ركب الحضارة وتطورها بل إن هناك دولا كبرى تسير حثيثاً نحو مكننة هذه المادة وتطويرها مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا وأمريكا وروسيا وغيرها، وفي الدول النامية أيضاً استوعبت أهمية تلك المادة كونها رخيصة ومتوفرة محليا وبيئية، كما أنها ذات وفر عظيم للطاقة ولا تضاهيها أية مادة بنائية في عملية تناسبها صحيا مع جسم الإنسان ومع بيئته، ولاسيما في المناطق ذات المناخ الحار، ومنها الجمهورية اليمنية التي تمتاز بمدن طينية تاريخية أثبت مع الزمن أنها أفضل ما أنتجته العقول اليمنية في مجال البناء بالطين، ومن هذه المدن صنعاء القديمة، شبام، تريم، زبيد،...إلخ.

إن اتجاهات خطة البحث في هذا المجال يجب أن يشمل أماكن تواجد الطين وكمياته للمدن الطينية القائمة في الجمهورية اليمنية بالاستفادة من المسوحات السابقة، أو إجراء المسوحات اللازمة في هذا المجال مع أخذ عينات كافية من كل نوع لهذه التربة ودراستها، وعمل مكعبات وإنتاج كافة أنواع الطوب ودراسة أنواع المثبتات وتحديد النسب المثلى لتلك المثبتات، مع تحديد كميات الماء اللازمة للخليط لما من شأنه إعداد كود البناء بالطين وتحديد المقاييس في مجالات الإنتاج للطوب الطيني والبناء ومجالات التصميم وتحديد الموانع والمتطلبات الفنية اللازمة للبيت الطيني، أكان ذلك في مجال الصيانة والترميم أم في مجال بناء البيت الطيني وتحديثه.تستعمل كلمة طين في الوقت الحاضر للدلالة على المواد التي أنشأتها الطبيعة بفعل عوامل النحت والتعرية على الصخور، وتتكون الطينات من سيليكات الألمنيوم المائية بصورة رئيسية، وتتمتع وهي مبتلة بخاصة الليونة التي تتيح تشكيلها بسهولة بفضل خاصية قابلية الابتلال بالماء والمساحة السطحية الكبيرة التي تتميز بها الجزيئات الطينية وقدرتها على اجتذاب الماء والاحتفاظ به.

استثمارات التراب أهم من استثمارات التبر

أنا لست مستثمرا لكي أتحدث في مجالات الاستثمار، ولكنني بأحث في مجال البناء بالطين واستخدامات الطين المختلفة، ومن خلال بحثي في هذا المجال حز في نفسي كثيرا تجاهلنا لهذه المادة التي وهبنا الله أياها على طول وعرض كرتنا الأرضية، ونتيجة لذلك فإني سوف أكتب سلسلة من المقالات تحت هذا العنوان، وإن يكن التبر (الذهب) هو أصلا من التراب بل الإنسان نفسه من تراب، قال تعالى: ?{?قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين?}? صدق الله العظيم الأعراف (12).

فالطين هو جزء من التراب ناعم الحبيبات يتألف من دقائق متبلورة من سيليكات الألمنيوم المائية ويرمز كيميائيا م2 أ3 .2س أ2 .يد2أ، كما تكون مختلطة ببعض الشوائب مثل أكسيد الحديد والكالسيوم والمنجنيز والصوديوم والكبريت وغيره، والأطيان متوفرة في الجمهورية اليمنية بأنواع مختلفة وذات مواصفات جيدة تغطي جميع مجالات الاستثمار، وأهمها مصانع الطوب الأحمر والطوب الرملي والطوب المضغوط وغيرها في مجالات طوب البناء المختلفة مثل القرميد والأدوات الصحية، حيث أثبتت التجارب العلمية المميزات الجيدة لخامات الطين في مجال البناء.

مصانع السيراميك والخزف الصيني، مصانع الإسمنت والحراريات، مصانع الزجاج، مصانع الفخاريات ومواد السباكة والبلاط، كما يدخل الطين في صناعة الورق والبلاستيك والمطاط، صناعة الصابون والمبيدات الحشرية، والأدوات المنزلية السيراميكية المختلفة.ومن خلال الدراسات العلمية على مختلف معادن الطين، وهي دراسات أولية، ظهر جليا المخزون الكبير من معادن الأطيان التي تشجع على الاستثمار في مختلف المجالات المذكورة.

ومن الأنواع الطينية الكاولينيت والهالوسايت، والمنتومورلونيت، السميكتايت، والالليت وغيرها من التسميات التي تنسب إلى مناطق الاكتشاف أو علمائها فمثلا: Kaolin-A1203.2SiO2.2H2O- الكاؤلينيعود أصل كلمة كاولين إلى الكلمة الصينية (كاولنج) ومعناها الجبل العالي، ويعتقد أنها تشير إلى المنطقة الصينية التي كانت المصدر الأول للكاولين، وهذا النوع من الطين يكون أبيض وأكثر نقاوة، ويستخدم عموما للمواد المحروقة وصناعاتها. A12O3.4SiO2. 2H2O Montmorillonite

وتسمى البنتونيت, وهو مصطلح أطلقه جيولوجي أمريكي في القرن التاسع عشر, وهي مجموعة السمكتيت التي تحتوي على أكثر من %70 من من المعادن القابلة للانتفاخ ذات مقاس أصغر من 0.005مم, وما يجب أن نعيه هو أن آباءنا استخدموا الطين منذ أكثر من خمسة آلاف عام وأبدعوا فيه، بنوا مساكنهم وصنعوا أدواتهم واستخدموا الطين في الاغتسال، وما كلمة (أدوب) المتداولة في جميع لغات العالم الحيَّة إلا شهادة للعرب بأن كلمة (طوب) العربية هي الأصل، وهي مصدر تلك التسمية.

باحث في مجال البناء بالطين

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى