> «الأيام» محمد علي محسن:

دار نعمان
لأول مرة ننزل فيها لمديرية الأزارق والعمل جار في مشروع الطريق بين عاصمة المحافظة الضالع وهذه المديرية النائية والأكثر فقراً على مستوى المحافظة كما إن حديث الناس هذه المرة بالذات غاب فيه الشكوى والمرارة من تعثر تنفيذ الطريق، حيث كان مقاول المشروع الحالي، والآتي من جهة والأخ عبدالقادر علي هلال وزير الإدارة المحلية عقب زيارته في يوليو الماضي للطريق ووعده لأبناء الأزارق باستئناف وإنجاز المشروع بمقاول آخر وتحت إشراف ومتابعة الوزارة، قد أزالت وبدرت تلك المخاوف والشكوك خاصة بعد إيفاء الوزير بوعده بشأن سحب المشروع وتكليف آخر لتنفيذه وكان لشروعه بسفلتة قرابة الثلاثة كيلومترات ومثلها أو يزيد تم شقها وبانتظار استكمال ردمها وعمل العبارات له بالغ الأثر لدى الأهالي الذين قابلناهم وجلسنا معهم أو قدر لنا رؤيتهم ومشاهدتهم وهم في طريق عودتهم من الضالع على متن سيارات الأجرة، ففي المرات السابقة كانت الوجوه المسالكة هنا مكفهرة ومحبطة ومستغيثة بكاميرا الصحيفة من أجل نقل معاناتهم المستديمة، أما اليوم فلم نلحظ ذلكم العبوس والتشاؤم المرسوم في وجوه أبناء المديرية فيما يتعلق بأهم المشروعات لمناطقهم القفرة والمحرومة ألا وهو مشروع الطريق البالغ كلفته نحو مليار وثلاثمائة مليون (2.300.000.000) وبطول 46كيلومترا للمرحلة الحالية.
وجهتنا كانت ناحية قرية عُباب الواقعة غرب مركز المديرية (ذي جلال) الذي يبعد عن مركز مديرية الضالع بـ12 كيلومترا، وتفصله قرابة خمسة كيلومترات إضافية تقطعها من عاصمة المديرية إلى القرية التي قصدناها صباح الخميس بمعية الزميلين عبدالرقيب الهدياني وعبدالرحمن المحمدي اللذين لم يترددا لحظة وقبلا الانضمام لرحلتنا الاستطلاعية لهذه البقعة المنسية والبعيدة عن وسائل الإعلام، وها نحن نلج قراها الـ508 المترامية والمتناثرة مثل عقد سبحة وعلى مساحة المديرية البالغة 400 كيلو متر مربع وللمرة الثالثة ندخلها بسلام وبحفاوة وترحاب أهلها البسطاء والتواقين لتغيير وجه هذه القرى المعزولة عن التنمية ردحا طويلا وهاهم سكانها البالغ عددهم وفق التعداد العام للسكان والمساكن لعام 2004م 37.295نسمة موزعين على 5662 أسرة تقطن 5844مسكناً في 508 قرى يلجون الحداثة على مضض، وببطء شديد ودون الشعور بها في كثير من الأحيان بما تحقق لهم من أشياء مثل إيصال التيار الكهربائي العمومي لمعظم القرى، وكذلك خدمة الاتصالات النقالة أو الثابتة والتي عبرها بات المرء بمقدوره مهاتفة شخص آخر أينما وجد ومن هذه الحجرات المتواضعة بوسعه مشاهدة أخبار العالم من الفضائيات العابرة الحدود والقارات ومن يدري كيف سيكون حال هؤلاء مع ربط قراهم بخدمات ضرورية كما الطريق الرئيس أو إمدادها بحنفية ماء الشرب أو منشأة صحية لعلاج الحالات المرضية التي يتم نقل أبسطها لعاصمة المحافظة في ظل افتقار المديريات لخدمة طبية إذا لم نقل سيارة إسعاف واحدة لإنقاذ حياة امرأة تعاني مخاض الولادة المتعسرة مثلما حدث ويحدث في هذه القرى الشديدة المعاناة وفي مديرية تشكو دوماً عسر الولادة لمشروعاتها.
الأخ فضل الحنش العائد لأهله من المملكة العربية السعودية كان مرشدنا ودليلنا إلى مربع عثرته ومسقط رأسه قرية عُباب التي غادرها يافعاً قبل عقدين ونيف إلى المملكة، حيث القدر جمعه بشريكة الحياة هناك وبعد أن ظن لسنوات تالية أن لا تلاقيا مع ربعه وقريته هاهو الطائرالذي قصده شاعرنا الكبير د. عبدالعزيز المقالح في قصيدته الرائعة القائل آخر بيت فيها (عادت طيور الأرض صادحة.. فمتى يعود الطائر اليمني) يعود ليس بمفرده، ولكن بسرب من الطيور المهاجرة ليستقر بها في مدينة الضالع كمحطة ومكان دائم للسفر أو العيش، ونحن في طريقنا إلى قرية أبي أحمد (عُباب) كان صديقي المهاجر يشير إلى الأرض الجرداء التي كانت ذات حقبة يكسوها الاخضرار طوال الفصول الأربعة واليوم الفتيات الصغيرات تجدهن يجلبن الماء على ظهور الحمير ومن مسافة كيلومترات، مشاهد الأطفال الصغار ودباب الماء فوق الحمير كانت كافية لأن تعبر تلك الصورة التي حاولت التقاطها لطفلة تمتطي صهوة حمار مجهد عائد بلترات من المياه ومع ذلك أبت الطفلة الصغيرة أن تعطي وجهها لعدسة الكاميرا وكأنها وببراءة طفولية تدفعني للعن واقعنا المتخلف ونسيان مسألة إصلاحه وتغييره وهو بالفعل ما شعرت به وقتئذ فقط وبمجرد تنحية الطفلة وجهها بعيداً، فلقد صرخت من أعماقي وبحرقة وألم تجاه سحقنا وانتهاكنا الفاضح لحق هذه الأنثى منذ الصغر، ما أبشع وما أقبح ما نغرسه ونفعله في نفوس وعقول فلذات أكبادنا!

معهد الفرقان
في عُباب قدر لنا الاستماع للأهالي الذين طغى عليهم الهم العام أكثر من غيره، فحتى وهم في مثل هذه الطبيعة القاسية الطاردة للحياة كان هؤلاء منشغلين بحراك محافظات الجنوب ويعولون كثيراً على جمعية المتقاعدين التي يؤكدون تعاطفهم ومناصرتهم لها، فيما الأحزاب من وجهة نظر البعض لا فائدة ترجى منها، بل وهنالك من حملها وزر ما هم فيه من إقصاء وقسر على التقاعد وبمرتب 20 ألف ريال لأحد المقعدين من الجيش، مؤيدو الأحزاب بكل أطيافها لهم حضور وإن كان مدافعاً وعلى استحياء حتى أنني أشفقت لحال أحزاب المشترك الواقعة بين شقي رحى السلطة من جهة وأتباعها والمحسوبين عليها المغردين خارج سربها من جهة، ووسط ذلك حالة من التيه وفقدان البوصلة تعيشه هذه الأحزاب منذ مدة وكما يبدو بدأت تعي الآن معنى فقدان البوصلة الذي لن يؤدي سوى للمجهول، وما سمعناه هنا من تجاذب وتنافر يؤكد ويلخص قضية جمعية سمعناها أو قرأناها في كل المحافظات.
الأخ عبدالله مثنى أحمد، موجه في مدرسة عُباب الثانوية والأساسية قال لنا:«إن معهد الفرقان الذي أنشئ عام 93م كمعهد للفصول 9-1 وأحيل فيما بعد لمدرسة أساسية إلى جانب مدرسة حديثة نفذت من الصندوق الاجتماعي والمدرستان تضمان 500 طالب وطالبة من -1 11 ، فإلى جانب طلاب القرية هنالك طلاب من قرى نعمان وقصابه وبراط والقفلة والحقل وجمال الدين وشأن والحبلة المعزبة خاصة للسنوات الثانوية.
مواطن آخر فضل عدم ذكر اسمه تمنى علينا زيارة المدرسة في أثناء الدوام المدرسي والتي فيها عجب العجائب من تسيب إداري واللامبالاة من إدارة المدرسة والمعلمين، وحتى أولياء أمور الطلاب الذين لم يتكرم أحدهم بطرق أبواب المدرسة ولو للسؤال عن طبيعة التعليم في المدرسة التي لم تشهد قط حضور من يهمهم الأمر.

ودعنا أهل عُباب مساء ذات اليوم وقبل أن تودعنا شمس الخميس كنا قد عرجنا على عاصمة المديرية التي قدر لنا التقاط صورة للمجمع الإداري الجديد فيها وكذا المنشآت التعليمية والصحية القديمة المجاورة للمجمع وغيرها، لنعود أدراجنا إلى مدينة الضالع وجميعنا غاية مناه استكمال مشروع الطريق وألا يتوقف.