> «الأيام» عامر علي سلام:

ربما إذا أردنا أن نتحدث عن الدراما التلفزيونية تدعونا الحاجة بحكم طبيعتها إلى التعامل مع الحياة المحيطة بنا من خلال عيوننا أولا، ولكن السؤال هل هذه الحاسة أعطيت حقها من الثقافة؟ هل استطعنا أن نطور هذه الحاسة لكي تحسن قدرتها على التعامل مع الجمال أو مع الفن أو الحياة؟

من هنا نبدأ ونتساءل هل ثقافتنا الغالبة بصرية أم سمعية؟

وبأقل من القليل يتأكد لنا أن ثقافتنا ظلت سمعية، الصوت والغناء والإلقاء والإيقاع هي مكونات التفاعل والتذوق، ثقافتنا العربية كانت وماتزال (ثقافة سمعية) منذ سوق عكاظ حتى اليوم، وعلى الرغم من تعاملنا مع الألوان بطريقة قد تكون لافته للنظر في بيوتنا وملابسنا إلا أن الفنون البصرية لاتلقى منا - كجمهور- الاهتمام الكافي، لسنا جمهورا يتذوق الفن التشكيلي ولسنا جمهورا جيدا للسينما أو التلفزيون!

ولماذا نستهل الحديث بهكذا كلام، لأننا وكما يقول الكاتب السوري (ممدوح عدوان) في تقديمه للمخرج السوري هيثم حقي بين السينما والتلفزيون:

«ومنذ أن دخل التلفزيون حياتنا لم نعرف كيف نفرزه جيدا لكي نميزه عن الإذاعة، وظلت الصورة زائدة في التلفزيون وظل التلفزيون يحكي لنا الكلام الذي كنا نسمعه في الإذاعة، أي أن التلفزيون مثل الإذاعة يتعامل مع آذاننا وليس مع عيوننا، وهذا ينطبق على الدراما مثلما ينبطق على الخبر والبرنامج، الأمر الذي يعني أن هناك نظرة إلى الدراما تعتبرها حكاية منقولة صوتيا وليست مشهدا مرئيا..» إنها كما يقول هيثم حقي (إذاعة مصورة)، وفي هذا ما فيه من افتقار للدراما.. فهل تعودنا على الفرجة الخاطئة للتلفزيون؟ وهل هذه الفرجة عطلت لدينا القدرة على الرؤية؟ ربما لأن فرجتنا الخاطئة هي جزء من التعامل الخاطئ مع الصورة إجمالا!

لذا علينا قبل الحديث عن (الدراما التلفزيونية - الإمكانية والتطور) أن نفكر أولا في عالم الصورة - أي أننا يجب أن نتعلم كيف نفكر بالصورة بعد أن كنا نفكر بالمجرد ثم بالكلمة ثم بالصوت.. ونتساءل هل نستطيع الدخول إلى (الفن السمعي البصري الجديد) في زمن بلغت ثورته التكنولوجية آفاق الخيال البصري.. ونحن مازلنا نتعامل مع التلفزيون بثقافتنا التقليدية، ونسأل عن علاقته بالأدب لتقريبه إلى أذهاننا التي اعتادت التعامل مع الأدب وحده.

هذا التحدي الأول الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا، وهو تحدي تثقيف العين لتحسين قدرتها على الرؤية.. ومعرفتها المتغيرة للصورة.

الصورة التي دخلت بقوة إلى كل ميدان.. اليوم حتى التلفونات تميل إلى نقل صورة المتكلم.. وبالتالي المشهد هو الأساس في المسرح وفي السينما.. وكذلك في التلفزيون، بل إن العدسات المصورة دخلت جسم الإنسان وباطن الأرض.. وقد وصلت حتى الكوكب الأحمر (المريخ).. حتى الفنون التي كانت في الماضي القريب تعتمد على الصوت وحده مثل الغناء صارت تشهد التحول اللامعقول نحو جعلها مادة بصرية (فيديو كليب) لاتقتصر على الصوت وحده، وربما حتى الشعر بدأ يبتعد عن الإلقاء، وصارت الصور الشعرية هي الغالبة، أي أن الثقافة صارت ثقافة بصرية!

وعودة إلى (الدراما) نجد أن التحول نحو الصورة جاء إلينا متأخرا، حيث كان المخرجون ومعهم الممثلون يعلقون أهمية كبرى على صوت الممثل، فالعاشق رومانسي النبرات، له طبقة تميل إلى الهمس، والشرير له صوت قوي أجش، في حين أن البطلة لها صوت ناعم هامس حالم، حتى إن للشخصيات التاريخية حين يجب تناولها أن تتحدث بطريقة مختلفة عن طريقة كلامنا- وكأنها بشر من كوكب آخر- وهذا دليل على أننا نسمع الشخصية أكثر مما نراها! إذا السبيل لكي نحسن رؤيتنا البصرية الجمالية ونصعد بتذوقنا (الدرامي التلفزيوني) هو العمل المتقن النظيف والجيد، وليس فقط بالتنظير والمحاضرات حول (الثقافة البصرية) أو (الدراما التلفزيونية) أو(المسرح) أو (السينما)، العمل الجيد هو الوسيلة التثقيفية نحو الأفضل، أن نبدأ صح، وأن نعمل بطريقة مستمرة.. أن نجرب.. ونجرب.. ونتعلم من تجاربنا وتجارب الآخرين، أن نعيش حياتنا ونبحث في مفرداتها فهي بحد ذاتها (دراما واقعية)، وهي المعلم الأفضل للكتاب والمخرجين والممثلين وحتى المتفرجين والمشاهدين، يجب أن نبحث عن الحس الجمالي من خلال أعمالنا المتقنة.. وعلينا أن نبحث بالقول بعد المشاهدة.. ماذا يريد المخرج هنا؟.. ماذا يفعل.. وكيف..؟ حتى يقدم لنا عملا دراميا، وكما قال أحد المتصوفين: «إذا لم نستطع أن نغير العالم فلنغير عيوننا التي ترى هذ ا العالم».

إذا (الدراما التلفزيونية) هي صناعة إنتاجية فنية راقية، صناعة حية فيها الجسد والحركة.. الذي يحتاج إلى اللغة السينمائية الراقية، فالنص (الدرامي) نقدمه والمشاهد عبر الصورة أولا، والصورة الدرامية فقط، التي تعني التكوين وحركة الكاميرا واللون والضوء والديكور، وفيها نشاهد أداء الممثل ويصلنا الإحساس عن طريقها- أي الصورة-، وعن طريق الصوت- أي الحوار والموسيقى والمؤثرات الصوتية والطبيعية الأخرى-. كل ذلك بالإيقاع الفني الذي يقدمه (المونتاج) و(المكساج)، علينا أن نستغل كل الفنون السينمائية التي قدمتها لنا السينما بلغتها الخاصة ذات الحرية التعبيرية الأغنى والإمكانيات الإنتاجية الكبيرة نسبيا، ونخرج من الدراما التلفزيونية المغلقة في جدران الاستديو التي لاتعطينا الفرصة الفنية.. بل تضع القيود الهائلة على حرية التعبير والحركة، وما نقصده هنا المساحة الطبيعية لحرية التعبير الدرامي ومتطلبات حركته الأدائية.

لذا علينا أن نرتقي بلغة الدراما التلفزيوينة من توسيع هامش الحرية والإمكانيات الإنتاجية، علينا أن نقول إننا نضع (الدراما الحديثة) ونبدأ من حيث وصل الآخرون.. أن نهتم بعملنا الإخراجي، فنحن نواجه الجمهور (المشاهد) بالصورة التي يتحرك داخلها الممثل دراميا، وربما نقترب ونبتعد بالكاميرا حسب حالة الشخصية التي يؤديها الممثل لندرك أن ما نفعله بالصورة والصوت هو أصلا رصد للحالة الإنسانية على الشاشة بالوسائل التعبيرية الخاصة بصناعة (الدراما التلفزيونية)، لكننا فوق هذا وذاك، ورغم خلق حالات درامية من خلال التلاعب بالصورة أو المؤثر الصوتي أو المؤثرات المرئية الأخرى فإن (الإنسان) يبقى هو شغلنا الشاغل وهو مركز فننا، لذا يجب أن نراه على الشاشة مقنعا، يجب أن نصدقه، ولانشعر أنه يمثل أمامنا نبحث ونفهم عمق الشخصية، ضمن المنظور العام للعمل والصدق في الأداء، والتناول حسب الحالة التي يؤديها الممثل.

نحن بحاجة إلى فهم آلية عمل الدراما التلفزيونية العربية، أن نبحث عن العمل التلفزيوني الدرامي الذي يقدم المتعة والمعرفة، العمل الذي يفتح أمامنا آفاقا جديدة للتعامل مع الواقع.. من أجل تغييره إلى الأفضل، الدراما التلفزيونية اليمنية لاتزال في طور البحث عن (دراما).. ولم تخرق بعد إطار الرتابة للعلب المغلقة التي فرضتها آلية عمل الدراما العربية، لم تتعامل بعد مع الواقع، والمكان الحقيقي، والتصوير حتى بكاميرا واحدة!

في فن الدراما التلفزيونية ينقصنا مادة المتعة لتصبح الدراما معرفة وفنا وحرية تعبير وسط إمكانيات إنتاجية حقيقية تصنع لها خطا ولغة تلفزيونية راقية تصل إلى لغة السينما وفضائياتها، نحن نتلقى اليوم سيلا من الأعمال السينمائية والتلفزيونية وبلغات عصرية مختلفة ومتطورة عبر الفضاء المفتوح، وعلينا أن نقابل ذلك بما عندنا من معلومات وأعمال ترتقي إلى المستوى المشاهد حتى تنافسه، وعلينا أن نقدمها للمشاهد بتقنية ما يراه من الآخرين، وإلا فإنه سيلغينا بضغطة (زر) والسبيل إلى ذلك يمكن بلوغة بأن نحدث المشاهد اليمني عن نفسه ونقربها إليه، لذا نحتاج للارتقاء بمستوى فننا الدرامي والتلفزيوني عموما إلى الصدق في نقل الواقع، إلى الجراءة في التحدث عن الماضي والحاضر، إلى اقتحام الخصوصيات النفسية والإنسانية والمعيشية، إلى رصد ظواهر حياتنا الإنسانية على أن يتم كل ذلك بأسلوب فني عالي المستوى وبإمكانيات إنتاجية كبيرة، ربما ونقول ربما نستطيع حينها أن نقول بأننا نخطو إلى الأمام، ونخرج من عقدة الدراما التلفزيونية العربية أيا كانت مصرية أو سورية أو حتى خليجية حديثة ومنافسة بقوة، كما ظهرت مؤخرا العديد من الأعمال الدرامية الخليجية التي تأخذ مساحة وزمنا من وقت المشاهد العربي عموما.. وبدأت بأعمال متميزة.

ربما علينا أن لانخاف من الدراما القادمة إلينا من أي مكان، ولن نعقد المؤتمرات والملتقيات لنطالب بإغلاق السماء أمام الأعمال الدرامية التلفزيونية المختلفة التي للأسف ستقتلعنا من جذورنا! أو شيئا فشيئا تحول حياتنا إلى (دراما) تختلف عن حياتنا باللون والطعم والرائحة.

كيف نصنع دراما تلفزيونية حديثة؟!

لكي نجيب عن مثل هذا السؤال أو التساؤل علينا أولا أن نعترف لأنفسنا بأننا لانعمل للاستهلاك التلفزيوني.. ولا فقط لقضاء وقت المشاهد في المشاهدة.. أيا كانت موسمية (كما يحدث في رمضان) أو مزاجية (كما تقتضي الميزانية الإنتاجية)، علينا أن نؤسس قطاع يعرف بـ (القطاع الإنتاجي للدراما التلفزيونية) ويؤسس هذا القطاع على العمل بوتيرة خاصة تحترم لإنتاج أعمال تلفزيونية لها ميزانياتها ولها وقتها الطبيعي للعمل الصح.

نحن بحاجة لكتاب الدراما التلفزيونية، بحاجة للتأهيل وبحاجة أكثر للتديب والممارسة العملية.. حيث علينا أن نثق بالعملية الإبداعية، فمثلا عملية الكتابة متعة في حد ذاتها، لذلك على كاتب السيناريو الدرامي أن يحاول الاستمتاع وتجنب هاجس أنه يجب عليه خلق عمل عظيم، كما أنه يجب عليه تجنب مقارنة نفسه بالآخرين.. ضعف الكتابة الدرامية لدينا لأننا نفكر بأن الآخرين يتبعون طرقا أفضل في الكتابة وهذه الطريقة في التفكير تضعف من ثقة الكاتب بعمله وقدرته على تقييمه.

علينا أن نثق بالعملية الإبداعية.. فإذا كانت الكتابة الدرامية تُشبَّه بحالة (الولادة) وأن الأفكار السابقة عليها كانت أشبه بحالة (الحمل) فإن الجنين دائما ما يأتي في موعد (الولادة) من واقع الإبداع يحدث في اللاوعي ولايمكن إخراجه إلا في خلق أفكار جديدة.

الشيء نفسه يحدث لدى الممثل والمخرج والمصور.. وكل من له علاقة بالعمل الإبداعي، حتى المنتج الخاص أو المؤسسي، عليه أن يخلق الفكرة الدرامية ويمارس كل عناصرها ويبحث عن الخلق والإبداع فيها.. مادمنا لم نتوقف.. فسوف نصل!علينا من هذا الملتقى الدرامي الأول للدراما الإذاعية والتلفزيونية أن نؤسس جمعيات واتحادات تساهم في التعليم والاستفادة، فنجعل لأنفسنا مقاييس للعمل الدرامي، أكان في المسرح أم التلفاز أم الإذاعة أم حتى في السينما مستقبلا، وأن نستفيد من تجارب الآخرين أو نعمل ورشا لكتابة السيناريو.. وورشا للإنتاج الدرامي.. وللإخراج.. والتصوير.. والتمثيل، حتى نستطيع أن نصنع دراما حديثه تحترم من قبل المشاهد.

علينا أن لانستصغر أي عمل درامي ونبدأ من التمثيلية أو السهرة أو المعالجة الدرامية في برامجنا التلفزيونية.. المهم أن نبدأ ولانتوقف، لأن الوقوف يعني العجز والفشل! ومن لايستطيع أن يصنع المتعة وفن المعرفة بالحياة ويصوغها فإنه يعجز أن يعيش الحياة بحد ذاتها!

وأخيرا علينا أن نفتح عقولنا لحرية التعبير وحرية التفكير في الواقع بصدق لنرتقي بمستوى فننا الدرامي التلفزيوني.. وأن نعطي الإمكانيات الإنتاجية لأعمالنا الدرامية ولجهود العاملين فيها.. نحن نستطيع أن نملك الجمهور المشاهد إذا قدمناه لنفسه وجعلناه يعيش دراما حياته اليومية.. وبذلك نستطيع أن نصنع دراما تلفزيونية حديثة بكل مقاييس الحداثة والتطور اليوم.

تزامنا مع انعقاد الملتقى الأول لكتاب الدراما الإذاعية والتفزيونية 30 - 31 يناير 2008م