قالها المحضار يوما:(حقك ورح هوشه إذا تقدر تهوش)

> «الأيام» صالح حسين الفردي

> في الخامس من فبراير أطلت علينا الذكرى الثامنة لرحيل عملاق الأغنية الحضرمية- كلمة ولحناً - في النصف قرن الماضي، الراحل الكبير حسين أبوبكر المحضار، العبقري الذي ما فتئ يشغل الناس في كل ساعة، بعد أن ترك تراثاً شعرياً غنائياً ومسرحياً عميقاً، إضافة إلى مساجلاته الشعرية الأخرى. فقد كان- وما زال - فارساً أصيلاً في جميع هذه الألوان، ولكن الكثير من محبيه وعشاقه ومتذوقي أساليبه وصوره ومشاهده الشعرية يحاولون التشبث بموروث المحضار حتى اللحظة، علهم يمسكون بتلابيب هذا النص المحضاري، ومحاولة فك رموزه وشفرات قوله وتفقه معانيه، خاصة ما حملته نصوصه الغنائية في منتصف سبعينيات القرن الماضي حتى رحيله، ففيها ظل يتلاعب بنا، معشر المفسرين، بقدره فائقة -حتى اللحظة- على المراوغة والانزياح كلما حاولنا الإمساك به، وهي مزية من مزايا روعة متنه الشعري وملمح من ملامح بقائه زمناً طويلاً جداً، وقد كان شاعرنا مبدعاً ومجيداً في تغليف السياسي بالعاطفي، مذ أدرك طبيعة التحول الكبير الذي حدث في المجتمع بعد الاستقلال الوطني، فبدأ يغزل أشعار الحب السياسي، أو السياسة الحبية التي وظف فيها قدراته الشعرية للتلميح تارة إلى خلل، وللوخز تارة أخرى بعد منزلق صراعي شديد، هكذا كان الراحل الكبير، وبقي ضمير أمته المتيقظ للقادم، ومن بديع قوله في هذا المنحى مبكراً:

لي يدبسون العسل ما يطعمون العسل

ماشي معاهم سوى وخز الإبر والذنوب

يا نوب خل عينك عالجبح يا نوب

وهذا المقطع فيه من الحمولات الإشارية الكثير، والنصح والحذر والحرص (يا نوب خل عينك عالجبح يانوب)، ثم جاءت قصيدته (بشيش عا أم اللبن) الدالة على التوجس والخوف من التغير المفاجئ والذهاب بعيداً في طلبه، دون وعي بخصوصية المجتمع، وإدراك ووعي قيمة الوطن والمواطن، ومطلعها يقول:

بشيش عا أم اللبن ومنيحة الأطفال

تحمّلت شي فوق طاقتها من الأحمال

بركت وعزوها الرجال

ومكانها تضلع تداركها بكيه من مكاويك

لي ما كوى فوق البخص

بلاش كية ما يؤثر فيك

ونلمس مدى ترميزه المكثف (منيحة الأطفال) المطعمة لهم، المضحية لأجلهم، المتحملة للصعاب والعواقب، هل هي (الثورة؟) ربما، أهي (الوطن؟) ربما، ولكنه لا يتركنا في متاهات صعبة، إذ يقول:

عا حسب وصف الناس قالوا تسبق الخيال

وتعقب الراكب ولا يتعب بها جمال

إذاً هي سهلة الانقياد، طيعة، لا تتعب جمّالها في السير، ولكن! الخوف مما؟! يأتي ردّه الاستدراكي الجلي:

لكن أولاد الحلال خرجوا بها برع

ويبغوها مطية للصعاليك

فالخطورة من تهور (أولاد الحلال)، وهي إشارة دالة على قراءة متأنية، وروح شفافة تخترق الحجب، لتظهر، وتحذر من قادم لا يتلاءم والآمال المعقودة على من يدير شؤون الحياة.

ومن قصائده التي حصدت شهرة كبيرة وكانت مادة للأخذ والرد، والتفسير والتحليل، أغنيته (الحب فيه المزله والعفو عين الصواب)، التي يقول في أحد مقاطعها:

يا حصن مول البناقل محلى ركونك

خيفان بعد الزوامل ينعق عليك الغراب

وفيه يشير إلى حتمية (الخراب) إن لم يع القوم خطورة الانجراف في تيارات الصراعات.

وقد قدمت هذه الأغنية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وللتاريخ حضور في مضامينها، إذ يحذر:

لي خربوا دار بصعر بايخربونك

خذ عشر خذ خمستعشر لا بد لك من خراب

ومن هذه النصوص الغنائية المحضارية نجد الكثير التي حملت مثل هذه الرؤي، وتعمقت في استخلاص القادم من رحم الحاضر، ومن ذلك قصيدته التي جاءت معارضة لقصيدة قالها أحد الشعراء منتصف التسعينيات، ومطلعها:

عاد شي في العلب نوشه

ما بقت إلا التناويش

فكان رد شاعرنا الكبير المحضار:

نوشة وراء نوشه ياكم باتنوش

الدوم ما يشبع وسيعين الكروش

لي غلقوا في الشحر مطعم باحميش

اسكت ولا تنبش جروح الناس تنبيش

وفي هذا النص الغنائي يضع المحضار الكثير من الخطوط والألوان بريشته المعبرة، مقدماً خلاصة تجربته الحياتية، لافتاً إلى التغير الكبير الذي سيشهده المجتمع، وهي من الإشراقات المحضارية الخالصة التي تضع لكل مرحلة عنواناً وشعاراً ليحمله كل من أراد:

حقك ورح هوشه إذا تقدر تهوش

قع وحش لا حليت ما بين الوحوش

فنظرة عميقة لهذا المعنى - الشعار - الذي وضعه المحضار مبكراً تضعنا أمام شاعرية فذة، لرؤية إنسانية عميقة، مؤمنة بما تدّعي، مخلصة في ما تقول، متفانية في ما تهب، على الرغم من قدرتها على النقيض، كما قال في قصيدة هي من آخر قصائده المغناة :

أنا إذا نويت باجيبك كتاف

لكن ما نا من الناس العياف

لبذلت حبي لحد ما عايفه

خلّك مع أهل القلوب النظاف

لا تنقلب كل ساعه عاصفه

هذه إشارات عجلى نرسلها عبر صفحات أيامنا الغراء في ذكرى الرحيل الثامنة لعملاق الأغنية الحضرمية حسين أبي بكر المحضار.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى