أدى رسالته في الحياة بأمانة وإخلاص وحب عظيم ..وداعا.. محمد صالح باشراحيل!

> رياض عوض باشراحيل:

> في الساعات الأولى من صباح يوم الخميس الموافق 7 مارس 2008 غابت شمس عمي الخبير الزراعي محمد صالح باشراحيل, وانطفأت شمعة حياته في مستشفى (المواساة) بالدمام في السعودية, وأسدل الستار على رحلة النجاح والكفاح والصبر والألم والمعاناة بعد أن أدى رسالته في الحياة بأمانة وإخلاص وحب عظيم, رحل فقيدنا عن عمر يناهز (63) عاما حظي خلالها بمكانة عالية أينما حل, وحب كل من عرفه وتقديرهم له في وطنه وخارج وطنه، لما تتسم به شخصيته من سعة الأفق والمعرفة والخبرة والتجربة الغنية في الحياة، والمقرونة بالتواضع والمروءة وحب الخير. والفقيد من مواليد 1945، وهو أحد الرموز التي أسهمت في إرساء الأسس العلمية الحديثة وتطبيقاتها في العمل الزراعي في بلادنا، وأضفى بصمته المميزة بتنشيط الحركة الزراعية خلال سنوات عمله الطويلة التي قضاها بمراكز الأبحاث الزراعية في سيئون بحضرموت وفي الكود بمحافظة أبين.

الخبير ومراكز الأبحاث

وقد تلقى التلميذ محمد صالح باشراحيل تعليمه الأول بمدرسة (مكارم الأخلاق) في الشحر، ثم انتقل إلى المدرسة المتوسطة بالغيل, ولأن الفقيد كان من أوائل الطلاب النابهين والمبرزين في المدرسة الوسطى فقد حظي بمنحة للدراسة الثانوية بمدرسة (حنتوب) في السودان ثم واصل دراسته الجامعية، ونال البكالوريوس من العراق والماجستير من جامعة (عين شمس) في جمهورية مصر العربية. عاد الفقيد إلى الوطن ليساهم في تنمية النشاط الزراعي في بلده، وكانت له اليد الطولى في تأسيس مركزي الأبحاث الزراعية في الكود وسيئون وتنشيطهما بمصاحبة رفيق دربه الخبير الزراعي المرحوم حسن علي بن يحيى، ولإخلاص فقيدنا وتفانيه في عمله حظي حينها باحترام القيادة السياسية في وطنه, التي قدرت تقديرا عاليا الحالة الصحية الحرجة لزوجته المريضة آنذاك- نسأل الله لها الصحة وطول العمر- ونصائح الأطباء بضرورة البقاء لفترة من الزمن خارج الوطن لمتابعة الفحوصات الدائمة لها ومراقبة حالتها الصحية, وعلى ضوء ذلك حمل الفقيد عصا الترحال مكرها، وغادر الوطن، واستقر بالدمام في المملكة العربية السعودية حتى رحيله.

لا أريد في هذه الكلمة أن أتحدث عن مناقب الفقيد في وطنه، وما حققه من إنجازات وأدوار ريادية في المجال الزراعي، فالحديث في هذا الميدان يطول، لأن الفقيد لم يكن مجرد خبير زراعي صاحب بصيرة ثاقبة ورؤى مستنيرة, ولم يكن مجرد شخص تقلد أسمى المناصب الأكاديمية والإدارية في ميدانه, ولم يكن مجرد وطني مخلص ساهم في برامج التنمية الاجتماعية في وطنه, وإنما كان بجانب ذلك كله إنسانا عظيما شامخ الهامة شديد التواضع والبساطة, لم يعرف التعاظم أو الانتفاخ الذي يستولي على العقول الفارغة والنفوس الضعيفة, لقد كان في حياته العائلية كما هو في حياته الاجتماعية والعملية، ساميا في صفاته متميزا بالإخلاص والنبل والوفاء والعمل الصالح, كان- رحمه الله- جامعا لكل تلك الصفات والأخلاق الرفيعة التي سمى بها أبناءه.. صالح ووفاء وأمل وبدور وفداء!.

ينابيع الخير والإنسانية

لا عجب في ذلك، فقد نهل الفقيد موارد الخير والصلاح والإنسانية والأخلاق الحسنة من ينبوعين ثريين صافيين، الأول: والده الوجيه الاجتماعي الشيخ صالح بكار باشراحيل- عليه رحمة الله- الذي كان المبادر في إيصال المياه الصالحة للشرب من قرية تبالة إلى مدينة الشحر، وتمويل بناء (الساقية) و(الجابية) في أول مشروع للمياه في الشحر، أسس في زمن كانت الناس تشرب فيه من مياه الآبار غير العذبة, كما حمل على عاتقه تمويل تأسيس أول صرح تعليمي في الشحر (مدرسة مكارم الأخلاق), وكانت مستلزمات المدرسة ورواتب المدرسين تصرف شهريا على نفقته الخاصة.

أما الينبوع الثاني الذي نهل منه الفقيد، فهو أمه التي كانت جسرا متينا ربط أواصر عدد من الأسر العريقة.. آل باشراحيل, آل باذيب, آل حميد, آل باغميان, آل معوضة وغيرها, وقد تميزت أمه بالطاعة وعمق الإيمان، وكانت في محيطها رمزا للتقوى والتسامح والمحبة والصلاح,من تلك الينابيع الفياضة بالعطاء نهل الفقيد محمد صالح باشراحيل أصفى قطرات العطاء المتدفق, واستطاع من خلال تلك الأحضان الدافئة ان يكون دفئا لأبنائه وتلامذته وأصدقائه الذين امتدت رفقة الدرب وأواصر الصداقة بينهم لأن تصبح قدوة حسنة لأجيالنا.

العطاء الفياض.. والرحيل

لقد تلقيت نبأ رحيل عمي الفقيد في وقت مبكر من صباح الخميس، وبالتحديد في السادسة صباحا, رن جرس التلفون، وكان في الطرف الآخر أحد الأقرباء يخبرني أن الأمانة في عمي قد عادت إلى مولاها, هزني النبأ هزا عنيفا، وشعرت بوقع الصدمة, كان قلبي يتقطر حزنا وألما من هول المفاجأة, أحست زوجتي الجالسة بجانبي أن خطبا ما قد حدث!! فأخذت تسأل مندهشة, ما الأمر!!

خيرا إن شاء الله؟!, فنظرت إليها وقد اغرورقت عيناي بالدموع, وأجبتها: عمي محمد صالح..! فأدركت الأمر، وقالت: عليه رحمة الله.. فرفعت يدها إلى السماء، ورفعت يدي ندعو له بالمغفرة والرحمة!.

بعد ذلك حاولت التقاط أنفاسي والاتصال بأخي وابن عمتي عبدالسلام معوضة، وقررنا الذهاب بسرعة ضمن ثلة من الأهل إلى الدمام للاطمئنان على الأسرة والمشاركة في مراسم الدفن, وهناك كانت النظرة الأخيرة إلى عمي, رأيته مسجى بابتسامته المشرقة، ووجهه البهيء المنير.. وقفت أمامه وقرأت الفاتحة على روحه, وفي تلك اللحظة المولعة بالأسى أطرقت متأملا في الفقيد فانطلقت الذكريات, وأطلقت لخيالي العنان، وطافت بذاكرتي العديد من المشاهد والمواقف التي جمعتني به, وتردد في وجداني صدى أحاديثه الشيقة ومواقفه النبيلة.

كيف أنساك؟!

عمي الفاضل.. كيف أنساك بعد كل ذلك؟!.. كيف أنساك وأنا اعرف أنك ضمير حي، ودوحة الحب والعواطف السامية، فأنت الوحيد من بين كل الأهل الذي بشرتك بمولودتي التي سميتها (مسعد)، باسم جدتي، أي والدتك.

أنت الوحيد أجهشت بالبكاء في الهاتف حتى انقطع صوتك بعد أن أذكى الاسم ذكرى والدتك- عليها رحمة الله- في قلبك النابض بحبها، ولم تستطع إكمال المكالمة، واستأذنت بالمغادرة، وعدت تحدثني في المساء.. عمي الأبي.

لقد رحلت عنا ولكنك لم ترحل، فأنت باق بروحك, باق بفكرك, باق بكلماتك, باق بصدى صوتك في أذني.. عمي الحبيب، اهجع قرير العين, فأنت في القلب والذاكرة والوجدان، ومحبتك مغروسة في قلوب الناس وفي ذاكرة الوطن بقوة جذور تلك الأشجار التي زرعتها ورعيتها في تربة وطنك، وهيأت لها أسباب النمو والحياة, وسوف ترقد تحت فيء ظلالها بإذن الواحد الأحد في جنة عرضها السموات والأرض.. رحم الله عمي محمد صالح باشراحيل!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى