> د. هشام محسن السقاف:

الإقامة في الفسطاط تضمخ معنى الوجود القليل أو القصير فيها بسرابل من الكلام الناشب عمقا في الروح والوجدان، من حيث لا رؤية فاقعة كبقرة بني إسرائيل، بقدر ما تكون الرؤى مرسومة لوحة سريالية تفيض في الحاضر من الماضي، وتستدعي الماضي في الحاضر، ثم- وهو الأهم- تهيم بك طيوف ما سيأتي به النيل الجديد بعد أن فقد قداسته التي ترامت على ضفتيه دهرا غابرا متشحا بعبق المعابد الفرعونية وبطقوس أناثي قرابينه البكارى، فيهتاج النيل كلما أمعن التقديس وصلا وذراري وقربى.

النيل يحمل مصر إلى لا منتهاه، يفطن أو لا يفطن إلى صنعته التاريخية للأحداث، يجذر مهواه في قلب أمة تجتاز كل حين خيار «السامية» بناشئة تضفي عليها مكونا/ إكسيرا جديدا، من حيث لا تعتلي على الأشياء علو أهراماتها الثلاثة، وقد تماهت كلا في واحد يصطفي العربية الصرفة بجدارة نيلها الذي مصَّر القادمين على مدى العقود والقرون.

كانت الإقامة القليلة مكوثا على منهل الأحلام في القاهرة المزحومة بمصريتها وعروبتها وفيزة عبور لقراءة وجه «بهية» الجميل بعد عقد من المرور في هوائها وسمائها ومائها. وإذا كان الإيعاز بالمكوث قليلا على «كباري» وجسور النيل من أجل «قزقزة» اللب على هوى المحبين لهان الأمر، ولكنه أمر يرتفع إلى أن تدير مصر دورة الريادة من جديد لاتحاد الأدباء والكتاب العرب بعد أن عادت الأمانة العامة إليها قبل عام من الآن.

كان الترتيب من المطار إلى المطار طول فترة الوصول والإقامة والمغادرة يمضي على وتيرة أبناء المحروسة في الدقة والتنظيم، وأتاح فندق «براميزا» الرائع في الدقي أن تلتقي الوفود العربية للتعارف والتشارك في الهموم والأماني العربية قبل أن تأخدنا بانوراما المكان والتاريخ ونحن نشاهد قلعة صلاح الدين ومبنى اتحاد الأدباء الجديد فيها، كأعظم ما يكون المبنى والافتتاح معا، بجهد أدباء مصر وحامل عصا الأوكسترا الأدبية العربية والمصرية الأستاذ محمد سلماوي الأمين العام للأدباء والكتاب العرب والمصريين، وبحضور امتاز في مساء الأربعاء الثاني من أبريل بشفافية الوزير الفنان فاروق حسني الذي أتاح أن يؤول المبنى التاريخي لأرباب الإبداع في مصر.

كان التمثيل العربي صفة أخرى لدور مصر الريادي، وهي التي لم تغمض العين عن تأريخيتها المتميزة في هذا المجال، ليتعدى فعل الحجر والصخر في مقطم قلعة صلاح الدين والمبنى الجديد لاتحاد الأدباء والكتاب العرب إلى عهد جديد للاتحاد العتيد تنقله ديناميكية أمينه العام الأديب محمد سلماوي إلى مصاف العالمية، حيث تحتضن مدينة «الأقصر» التاريخية فعالية شعرية عالمية نهاية هذا الشهر بإعداد وجهد مصري لا تنقصه المثابرة.

أما احتفالية افتتاح المقر الجديد بالقلعة فقد شهدها أدباء مصر و30 كاتبا عربيا وأجنبيا، منهم أميتاف جوش (الهند) وروي سانتشيز (المكسيك) وبحضور الشاعر الكبير محمد الفيتوري الذي فاز بجائزة الأديب العالمي نجيب محفوظ وقدرها عشرة آلاف دولار، وبحضور متميز للدكتور عبدالوهاب المسيري الذي ألقى محاضرة قيمة عن:«الشعراء وإشكالية الموت من خلال كتاب الملاح القديم»، ناهيك عن ممثلي الاتحادات العربية: سعود قبيلات من الأردن، يوسف شقرة من الجزائر، ليلى محمد صالح من الكويت، إبراهيم الهندي من البحرين، المتوكل طه من فلسطين، عمر قدور من السودان، بالإضافة إلى المغرب وليبيا وتونس وعمان والإمارات العربية واليمن. وكان الاتفاق أن يلقي الزميل المتوكل كلمة الوفود العربية بعد التكريم الذي نال بموجبه رؤساء الاتحادات العربية دروع اتحاد كتاب وأدباء مصر، حيث شاء الفسطيني الرائع أن يجعل كلمته قصيدة طويلة حيا فيها مصر واستشرف المناخات التاريخية من قلعة صلاح الدين ليطوف بالأفق المصري طولا وعرضا من الفراعنة إلى الزوايا والتكايا الصوفية، فحازت القصيدة إعجاب الحاضرين.

كنت أمازح الزملاء من أبناء المحروسة في مقهى الحرافيش الملحق بالمبنى التاريخي؛ هل اختيار المكان له صلة بمذبحة جديدة للأدباء العرب كما فعل محمد علي بالمماليك؟ لكن أجواء السحر قد رفرفت بظلالها الشفافة حين اختار لنا محمد سلماوي فاتنتين صوتا ووجها للغناء في فناء المبنى بروعة الغناء الأصيل الذي تنقّل من أم كلثوم وفائزة إلى محمد فوزي وحليم.

وعدا ما نقله الهندي أميتاف جوش في سيرته الذاتية في مصر قبل عشرين عاما، كان المكسيكي البرتوروي سانشيز يتحدث عن «الحضور العربي في الثقافة المكسيكية» بينما شنفت آذان الحضور نماذج من شعر محمد الفيتوري الذي تلي بحضوره بعد أن عزف الشاعر الكبيرعن الكلام تحت وطأة السنين، وإن كان لايزال يستصرخ القارة السمراء «انهضي يا أفريقيا» يقول:

يا أخي في الشرق، في كل سكن

يا أخي في الأرض، في كل وطن

أنا أدعوك.. فهل تعرفني؟

يا أخاً أعرفه.. رغم المحن

إنني مزقت أكفان الدجى

إنني هدمت جدران الوهن

لم أعد مقبرة تحكي البلى

لم أعد ساقية تبكي الدمن

لم أعد عبد قيودي

لم أعد عبد ماضٍ هرمٍ عبد وثن

أنا حي خالد رغم الردى

أنا حر رغم قضبان الزمن

وفي أنداء الليالي العطرة كان الأستاذ يوسف شقرة يمتعنا بأدب «الإقامات» الشكل الجديد نتاج النص الشعري المشترك بتمخضات ثنائية شعرية غير مسبوقة في الأدب العربي، نفرد لها قراءة متأنية في قادم الأيام. وتسرح بنا الأديبة الكويتية السيدة ليلى محمد صالح في المشهد الأدبي الكويتي الذي أزعم أنني ملم ببعض من أطرافه المخملية وتضفي مشاركتها في الفعالية بعدا إنسانيا عميقا. بينما يتفرد السوداني العائد بجذوره التاريخية إلى اليمن الأديب الكبير عمر قدور بأناة الحكيم المتفلسف الذي يقطف زهور الشعر ليهدينا إياها في كل لحظة ومجلس.

وعدا قصيدته الرائعة عن مصر يقود الفلسطيني المتوكل طه لحظات المرح والحيوية في أجواء الفعالية لتستطيب الصحبة معه، هادياً إيانا «سرديات الجنون» كتاب عن عدد من مجانين هذا العصر الفلسطيني ممن لا يخلو الواحد منهم من حكمة وعبرة، هو ما ذكرني بزميلي الشاعر المتألق محمد عبدالوهاب الشيباني وما يفرده في «التجمع» الغراء من صفحة عن مجانين الشارع اليمني.

أما الغائبان الحاضران فكان المفكر العربي أبوبكر السقاف الذي نال قراءة لمعطياته الأدبية والفكرية والسياسية من روائي مصري مثير وبديع دون أن تكون للأديب المصري لقيا سانحة به من قبل في مشهد له ما له من دلالة على مكانة السقاف العربية.

أما الآخر فالمتواضع بعلمه الغزير بعطاءاته الدكتور عبدالله حسين البار رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي منعه المرض المفاجئ من الحضور وحملت إليه تمنيات الزملاء العرب ودرع اتحاد أدباء مصر.

لقد كان للجوقة المصرية المتناغمة من أدباء وكتاب وفنيين دورهم في إنجاح هذه الفعالية الكبرى من ممدوح وجاد حسين إلى كبيرهم الذي علمهم الأدب محمد سلماوي الذي كان صادقا في قوله وفعله:

«من قلب قلعة صلاح الدين موحد العرب وناصرهم نفتتح هذا المبنى الجديد التابع لاتحاد كتاب مصر والذي سيستضيف فعاليات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب بعد أن اختار أعضاؤه بإجماع آرائهم أن يعود مقره مرة أخرى إلى القاهرة، عاصمة الألف مئذنة التي اختارها صلاح الدين قبلهم مقراً لدولته وقاعدة لتحرير العرب ونصرتهم من الاحتلال الصليبي» م.سلماوي.