وداعا محمد بن سالم بن محفوظ

> فاروق لقمان:

> التقيت الشيخ محمد بن سالم بن محفوظ قبل وفاته أكثر من مرة لعل أطولها وأهمها تلك التي حدثت في منزله الجميل الواقع على شاطئ أبحر في شمال مدينة جدة حيث كان يقضي بعض إجازات نهاية الأسبوع للاستجمام من عناء عمل مضن في أكثر من موقع – من البنك الأهلي التجاري الذي أسسه والده في القرن الماضي إلى مجموعات شركات اسمها سدكو.

بالإضافة إلى أنه كانت له اليد الطولى في شركات عقارية وتجارية وصناعية. ولما كان الأخ الأكبر في الأسرة ظل طوداً شامخاً وأخاً حنوناً ومرشداً أميناً وقائداً محنكاً لكل العائلة. أو كما قال شقيقه الشاعر الشيخ خالد بن سالم عنه في قصيدة عصماء نشرت بعد وفاته:

قد عشت فينا سامياً فوق الهوى

تسمو على الهامات والأعلام

قد كنت فينا خيمة بظلالها

وبطيبها تعلو على كل الخيام

وقضيت عدة ساعات تخللها غداء في بيت البحر وهو يحدثني عن والده الراحل أضعاف ما كان يقول عن نفسه إذ كان ابناً باراً بأبيه حنوناً على أخوته وله دور بارز في بناء الصرح الكبير الذي بناه والده. وقال الشيخ خالد عن قيادته للأسرة وحدبه على أفرادها أنه كان منارة يهتدى بها وعقلاً مدبراً يُستضاء به:

من لي بحكمة سيدي وأخي

إذا نزلت بنا الأرزاء في الأعوام

من لي بفكر يُستضاء به

نور يضيء مبدد الأعتام

قد كنت فينا سيداً وأباً أخاً

فلمن تركت الربع يا شيخ العظام

وقد حدث اللقاء المطول وأنا بصدد جمع معلومات عن والده الراحل الشيخ سالم بن محفوظ أحد جبابرة الاقتصاد ورائد المصرفية الوطنية في المملكة العربية السعودية بتشجيع لا يُنكر ولا يُنسى من قبل الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود ومن بعده إخوته الملوك. لكن الشيخ محمد كان يتفادى بإصرار الحديث عن نفسه وعن دوره في إعداد وبناء البنك الأهلي الذي صار أكبر البنوك العربية في الشرق الأوسط على الإطلاق خلال بضع سنين ويفضل الحديث عن والده الذي كان له الدور الأول والأكبر على الصناعة المصرفية وعلى الأسر السعودية والحضرمية التي ظل يرعاها بمعوناته المنتظمة حتى وفاته. وله في مسقط رأسه المدينة الحضرمية (الهجرين) مئات المآثر والأسر التي تلهج بالثناء عليه. ولما زرت بيت الأسرة الجديد في جدة شاهدت مجسماً بديعاً للمدينة بكاملها تكاد تنطق شبهاً بالأصل وهي تستشهد بقول ابنها الشاعر العبقري امرئ القيس الذي وُلد فيها:

قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

وقوفاً بها صحبي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمل

ودع عنك يوماً قد قضى لسبيله

ولكن على ما غالك اليوم أقبل

وإن شفائي عبرة مهراقة إن سفحتها

فهل عند رسم دارس من معول

وقد تحدث عن الهجرين عدد من الشعراء أمثال الأستاذ صالح المفلحي في قصيدة غناها الفنان الشهير أبوبكر بلفقيه يقول فيها:

سقا أم الهجر منبتك بالغصن المورد

منازل تنبت الجوهر وطيب العود والند

وفيها قاصرات الطرف من مثلك وأمثال

حبيبي حل في قلبي وطيفه في سماء حبي

مشوع بدر وهلال

وقد جاء في القاموس: «الهجران مثنى ومفردها هجر وهي القرية بلغة حمير والعرب العاربة وذكرها الهمداني أشهر مؤرخي اليمن بقوله: الهجران قريتان متقابلتان في راس جبل حصين يُقال لأحدهما خيدون وللأخرى دمون وفي الهجرين ساقية اسمها دمون وهي من أودية دوعن، وقال دمون من حصون حمير بحضرموت وقد ذكرها امرؤ القيس في إحدى قصائده بقوله:

تطاول الليل علينا دمون

دمون إنا معشر يمانيون

وإنا لأهلنا محبون

وقال في موقع آخر:

كأني لم أبت بدمون ليلة

ولم أرى الغارات اليوم بعندل».

وعندل منطقة على مدخل وادي عمد أحد أودية حضرموت وبمحاذاة الهجرين جنوباً تقع قرية (صيلع) التي بنيت على قمة جبل (صيلع) الذي ورد ذكره في سيرة امرئ القيس حين أتاه نبأ وفاة أبيه.

لكن الهجرين قد قامت من بين أطلالها وأضحت مدينة حديثة سامرة عامرة إلى حد كبير بفضل جهود الأب المؤسس ثم أبنائه البررة بقيادة الفقيد محمد.

بعد قضاء عدة ساعات خلال عدة اجتماعات قلت للفقيد إنه يذكرني ببعض أفضل المتحدثين وأبرز الخطباء بصوته الجهوري وطول قامته وارتفاع هامته كما كان يتمتع بقوة الخطابة ومتانة الحجة مع تواضع جم وإجابته على كل مكالمة هاتفية تصله من سكرتارية المكتب ويستقبل ضيوفه بدون دعوات في قصر الأسرة بطريق مكة حيث كان يعطي بسخاء لمن استعان به وكذلك الأسر التي احتاجت إلى عونه من مال أو سكن في الأربطة.

ولما انتهى من كافة الطالبين دعاني إلى العشاء – خبز طاوه وعسل دوعني ولحم مندي- وبعده استمر بيننا الحديث – أيضاً عن والده. أما بالنسبة لسيرته الذاتية فقد سلمني بعض أوراق مما نشر منها ثم مجموعة من المقالات التي ضمت آراءه في المصرفية خصوصاً والاقتصاد عموماً. وعاد بسرعة ليتحدث عن والده الراحل الذي كان بدون أدنى شك أحب الناس إلى قلبه وعقله.

ولد محمد عام 1946 بجدة والتحق بالمدرسة الوزيرية التي بناها الشيخ عبدالله السليمان خلْف فندق الكندرة الذي كان يملكه. ثم سافر إلى مصر حيث قضى عامين في كلية فكتوريا الشهيرة قبل العودة إلى جدة للدراسة في مدرسة القصور السبعة التي شيدها الملك سعود رحمه الله، حيث قضى ثلاث سنوات ونصف السنة قبل مواصلة التحصيل في مدرسة المقاصد ببيروت. وفي عام 1959 بكلية جورنج البريطانية حتى نال شهادة الثقافة العامة العليا في اللغة العربية والإنكليزية والرياضيات والتاريخ. وواصل دراسته العليا لعامين إضافيين قبل العودة إلى جدة للعمل مع والده.

ثم عاد إلى جدة حيث بدأ التدريب بإشراف المحاسب السوداني حسن عثمان في عمارة البنك التي كانت مواجهة لمركز المحمل الحالي في جدة، حيث قضى أربع سنوات يُعامل كأي موظف متدرب عادي في مختلف أقسام البنك.ثم عمل مديراً لفرع موسمي في فترة الحج في الوقت الذي كان للبنك 18 فرعاً وفرعان في لبنان.

رحمه الله رحمة الأبرار وإنا لله وإنا إليه راجعون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى