السياسة لعبة لُغَويَّة

> «الأيام» د. سالم عبد الرب السلفي:

> أول مكان تتجه إليه دبابة القوة السياسية المنتصرة هو مبنى الإذاعة والتلفزيون لإلقاء البيان الذي يُسْبِغُ الشرعية عليها ويرسم الخطوط العامة للسياسة الجديدة، وعادة ما يبدأ هذا البيان بعبارة تقشعرُّ لها الأبدان ويهتز لها الوجدان، إما انتشاءً وطربا أو خوفا وهلعا، هي عبارة (يا أبناء شعبنا العظيم!).

وفي حال سيطرة إحدى القوتين السياسيتين المتصارعتين على مبنى الإذاعة والتلفزيون فإن الدبابة أيضا تتجه نحو هذا المبنى لتُخرج مَنْ فيه أو تدكَّه عليهم، وذلك إيمانا منهم بأن الكلمة هي المفتاح إلى السيطرة على الشعوب وتنويمها، وهي العادة في البلدان النامية.

ولايختلف الأمر في البلدان المتقدمة إلا من حيث الشكل والطريقة، فهم يؤمنون بسحر الكلمة وتأثيرها في الناس، ولذلك جعلوها أداتهم الأولى في سياسة الشعوب: شعوبِهم اليقظة وشعوبنا النائمة، فيستخدمون الكلام في إيقاظ شعوبهم وتنويم شعوبنا. ففي حين يجهر (بوش) بأن الحرب على أفغانستان/الإرهاب هي حرب صليبية ليستنهض شعبه لتدمير العالم الإسلامي، ينوِّمنا بكلمات احترامه للإسلام وتقديره له.

وليس أدلَّ على أهمية الكلمة في التلاعب بعقول الناس من تلك المناظرات العلنية التي تجري بين المرشحين لانتخابات الرئاسة الأمريكية. وعلى الرغم من أن كثيرا من عبارات المتناظرين خادعة ومراوغة ومضللة في نظر بعضهم فإن جمهور الحضور الهائج ينساق وراءها ويصدقها وتنطلي عليهم اللعبة اللغوية، وربما أصبح هذا الجمهور بوقا يردد تلك العبارات مسلِّما بها وعادّا إياها علاماتٍ في الطريق السياسي الجديد.

القَصْديَّة العالية

توظِّف السياسةُ اللغةَ توظيفا خاصّا، فينشأ لدينا خطاب ذو خصوصية، اسمه الخطاب السياسي. فما هي أبرز خصائص هذا الخطاب؟. الخصيصة الأولى القصدية العالية. إن لغة الخطاب السياسي هي لغة مصنوعة بدقة، تقوم عليها جهات مختصة، تعبِّر عن وجهة نظر النظام السياسي المعيَّن، فهي لغة مقصودة، وليست اعتباطية أو تجيء عفو الخاطر. ولما فيها من قصدية عالية فإنها تكيَّف وفقا للمتلقي، فكل خطاب سياسي يعتمد لغةً تتناسب مع طبيعة الجمهور المتلقي لها.

هذه القصدية العالية في الخطاب السياسي تجعل كلَّ مفردة- أو حتى حرف- ذات أهمية ودلالة في الوقت نفسه، وتؤخذ على محمل الجد عندما تصدر من شخصية سياسية ذات ثقل في ميزان السياسة الداخلية أو الإقليمية أو الدولية.

وقبل أن يُدلي سياسيٌّ بتصريح عبر أجهزة الإعلام يكون قد تشاور مع الجهات المختصة في نظامه السياسي حول الصيغة أو الصيغ اللغوية التي يمكن أن تقال في التصريح.

وقد وقعت بعض الأنظمة السياسية في إحراجات اضطرتها إلى الاعتذار عن تصريح أحد سياسييها الذين لم يحضّروا جيدا ما سيقولونه من كلام. وربما أدت بعض التصريحات غير المسئولة إلى حدوث أزمات بين الدول تطوَّر بعضها إلى حروب. وكل الأنظمة السياسية يمكن أن تقدم اعتذارا باستثناء النظام الأمريكي المتعجرف الذي يلجأ إلى تقنية المراوغة بدلا من الاعتذار.

المراوغة

الخصيصة الثانية في لغة الخطاب السياسي في تعامله مع اللغة هي المراوغة. والمراوغة اللغوية هو الإتيان بتعبيرات لاتعبِّر عن الحقيقة أو عن طويَّة النظام السياسي، أو أنها تلتف بالتعبير عن قضية ما. وغالبا ما تتسم اللغة في هذه التقنية بالحياد والبرود، وربما اتخذت طابع التنميق لتغطي السريرة القبيحة. ويعبِّر البيت المشهور (يعطيك من طرف اللسان حلاوةً ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ) عن معنى المراوغة تعبيرا واضحا.

وكثيرا ما يلجأ السياسيون الذين يعملون في حقل السياسة الخارجية والعمل الدبلوماسي إلى هذه التقنية، حتى اقترنت بهم العبارة الشهيرة (ردّ دبلوماسي)، والمقصود بها:

العبارات التي لاتجرح شعور المتلقي وتحافظ على استمرار العلاقة- بغض النظر عن طبيعة هذه العلاقة- بين المرسل والمرسل إليه، وغالبا ما تكون المصالح المشتركة أو مصلحة أحد الطرفين من الآخر هي المنتجة لهذه التقنية اللغوية (المراوغة).

وقد تتم المراوغة للتهرب من إجابة مباشرة تحرج المتكلم أو تفسد علاقة له مع آخر، والوسيلةُ المناسبة لإنجاز المراوغة في هذه الحال هي الصورة الفنية. وقد ضرب الدكتور عبد السلام المسدّي في بحث له مثالا للصورة الفنية التي تستخدم في الخطاب السياسي التصريحَ الذي أدلى به الرئيس الأمريكي بل كلنتن في لندن، وقد كان متجها من واشنطن نحو قمة فانكوفر ليلتقي الرئيس الروسي بوريس يلتسن، وكان الغرض مساعدة روسيا على إعادة جدولة ديونها البالغة ثمانين مليار دولار، وكان الرئيس كلنتن متحمسا للمساعدة، ولكنه كان يواجه في بلاده رأيا عامّا محترزا جدّا حيال الخيار الديمقراطي الذي أعلنه يلتسن، هذا التصريح هو: «إن آلام روسيا ليست آلام ولادة الديمقراطية، وإنما هي آلام احتضار الدكتاتورية».

وهذا الخطاب عند الدكتور المسدي تبريري، يدافع فيه كلنتن عن روسيا في المصرح به، وعن يلتسن فيما وراء ذلك، ثم هو فيه يدافع عن نفسه حيال الرأي العام الأمريكي، فهو خطاب مراوغ يحاول إرضاء الأطراف كلها.

الحِجَاج

يتسم الخطاب السياسي بطابع حجاجي ينحو فيه الكلام منحى جدليّا، ولاسيما في المناظرات السياسية الميدانية أو المنقولة مباشرة عبر التلفزيون، أو تلك المساجلات التي تتم على صفحات الجرائد وفي القنوات الفضائية ذات الميول السياسية المتعددة. فإن كل طرف سياسي يعتمد الحجة يقيمها على مناوئه، أو يدرأ بها حجته.

ويقتضي الحِجاجُ لغةً معينة تعتمد على البراهين الساطعة والجمل الموجزة والصور الممثّلة، وربما استخدمت فيها الخصائص الإيقاعية كالسجع والجناس.

كما تعتمد على أساليب النفي والتكرار والمقابلة، ويكثر فيها أسلوب الاستفهام، كما يستخدم فيها أسلوب الأمر الذي يخرج إلى معنى التعجيز؛ مثل: أجبني عن هذا السؤال!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى