الدولة التي تدوس بقدميها على الدستور والقوانين والاتفاقيات المصادق عليها (3-3)

> د.محمد علي السقاف:

> بعد الحلقة الأولى التي نشرت بتاريخ 29-28 أغسطس 2008، تناولنا في عدد الحلقة الثانية بتاريخ 8/31 في إطار المحور الأول للمقال حول الانتهاكات الصريحة للدستور والقوانين في التعامل مع قادة الحراك الجنوبي، في الفقرة (3) الانتهاكات فيما يخص أوامر القبض، واتباع النيابة العامة قاعدة منهجية وليس بشكل استثنائي بخطأ عابر قد يقوم به أحد مأموري الضبط القضائي، والمتمثل في إلقاء القبض على المطلوبين دون الالتزام بنصوص الإجراءات الجزائية بالاستدعاء والتكليف بالحضور، يجسد نهج الدول البوليسية بامتياز حين يفاجأ الشخص بالقبض عليه وانتشاله من بيته في وقت متأخر من الليل، أو من المطار دون إبراز صفة من ينفذون أوامر القبض ولا صورة لأمر القبض، ويتم إيداعهم في منشآت عقابية غير قانونية خلافا لما هو منصوص عليه في الدستور والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من قبل الدولة، وتوقفنا في نهاية الحلقة الثانية عند الفقرة الرابعة التي سنتناولها الآن.

(4) الإسراف في استخدام الحبس الاحتياطي

منذ نهاية حرب صيف 1994 شهدت اليمن إسرافا مبالغا فيه في استخدام سلطة الحبس الاحتياطي حتى صار قاعدة متبعة في معظم التحقيقات، ولما تثبت إدانة المتهم بعد، حيث أصبح بذاته عقوبة تخالف قرينة البراءة، فهو استثناء لمبدأ الحرية الفردية، وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته.

فالمادة (48) من دستور اليمن تنص فقرته(أ) على: «تكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم، ويحدد القانون الحالات التي تقيد فيها حرية المواطن، ولايجوز تقييد حرية أحد إلا بحكم من محكمة مختصة». وتقضي الفقرة (ب) من المادة نفسها بالقول: «ويحظر حبس أو حجز أي إنسان في غير الأماكن الخاضعة لقانون تنظيم السجون، ويحرم التعذيب والمعاملة غير الإنسانية عند القبض وأثناء فترة الاحتجاز أو السجن». وبينت الفقرة (ج): «وفي كل الأحوال لايجوز للنيابة العامة الاستمرار في الحجز لأكثر من سبعة أيام إلا بأمر قضائي..».

ويقضي القرار بقانون للإجراءات الجزائية لعام 1994 في المادة (176): «لايحق للنيابة العامة أن تحجز أي شخص أكثر من 7 أيام على ذمة التحقيق، ولايمد أمر الحبس إلا بأمر من قاضي المحكمة المختصة». وتنص المادة (184) أ جـ/أن «الحبس الاحتياطي لايكون إلا بعد استجواب المتهم وفقا للقانون»، والمادة (189) أجـ/«الأمر بالحبس الصادر من النيابة العامة لايكون نافذ المفعول إلا لمدة السبعة الأيام التالية للقبض على المتهم أو تسليمه إليها إذا كان مقبوضا عليه من قبل..». ربما أطلنا بعض الشيء في سرد النصوص القانونية، ولكن لغرض التوعية القانونية، وإظهار التناقض بين النصوص وتطبيقها قد يبرر تلك الإطالة.

فالقاعدة القانونية بأن «كل متهم بريء حتى تثبت إدانته بحكم قضائي بات» وفق نص المادة (47) من الدستور لا معنى لها إذا تحول الحبس الاحتياطي إلى عقوبة قبل إدانة المتهم بحكم قضائي بات، ويتم إفراغ قرينة البراءة للمتهم من مضمونها، فمبدأ براءة المتهم يعني أن على الجهة التي توجه له الاتهام أن يكون لديها من الأدلة الكافية على اتهامه بالجريمة المنسوبة إليه، من دون ذلك وطالما لم يصدر حكم بالإدانة يحتفظ للمتهم بحق قرينة البراءة، ونبين فيما يلي الإسراف في استخدام الحبس الاحتياطي وتجاوز المدد المنصوص عليها في الإجراءات الجزائية.

نشير على سبيل المثال إلى ما جاء في نص المادة (189) أجـ/ حول نقطة الانطلاق في احتساب مدة السبعة الأيام بأمر حبس المتهم تكون نافذة المفعول في السبعة الأيام التالية للقبض على المتهم أو تسليمه إليها، فحسن باعوم كبقية زملائه الآخرين تم القبض عليه في 3/31 وصدر رسميا أمر حبسه احتياطيا بتاريخ 4/16 لمدة أسبوع من 4/16 حتى 2008/4/22، في حين أنه كان محبوسا منذ أكثر من أسبوعين قبل صدور الأمر بحبسه من 4/1 حتى 4/16، وفي وثيقة أمر الحبس لمدة سبعة أيام الصادر بتاريخ 4/16 كُتب: «وأقفل المحضر عقب إثبات ما تقدم وقررنا الآتي: حبس المتهم حسن أحمد عمر باعوم سبعة أيام على ذمة التحقيق مع مراعاة التمديد في حينه».

هنا ملاحظتان: -1 أجريت 3 محاضر بتاريخ 4/9 و 4/15 و 4/16 فكيف يحبس على ذمة التحقيق سبعة أيام، وقيل قبلها إن المحضر أقفل في 4/16.

-2 في ملف الاتهام المسلم لنا كمحامٍ لايوجد نص الأمر القضائي بالتمديد لأسبوع آخر وفق نص المادة (176) أو(190) أجـ/.

انقلاب الحبس الاحتياطي إلى عقوبة من خلال الإطالة المتعمدة لإجراءات المحاكمة كما يتضح من الآتي:

1) بالنسبة لمحاكمة حسن باعوم ويحيى غالب الشعيبي وعلي هيثم الغريب:

الجلسة الأولى انعقدت في 2008/5/28

الجلسة الثانية انعقدت في 2008/7/15 (بدلا من المقرر في 6/2)، مدة التأجيل 42 يوما

الجلسة الثالثة انعقدت في 2008/7/21

الجلسة الرابعة: التي حدد القاضي عقدها في 8/4 لم تتم، على أن تعقد بعد الإجازة القضائية (60 يوما)، وبذلك مدة الحبس الاحتياطي من تاريخ القبض عليهم 3/31 حتى نهاية الإجازة القضائية في حدود 7 أشهر في حين المدة القصوى للحبس الاحتياطي هي 6 أشهر فقط.

2) بالنسبة لمحاكمة علي منصر مقبل وناجي محمد العربي وعيدروس الدهبلي وحسن البكيري: منذ اعتقالهم في 2008/3/31 قدموا إلى المحكمة في جلسة واحدة انعقدت بتاريخ 2008/7/23 وحددت الجلسة القادمة في 25 أكتوبر القادم بتأجيل لمدة 95 يوما، وبحبس إجمالي 7 أشهر.

3) بالنسبة لمحاكمة أحمد عمر بن فريد ومحمود حسن زيد وعبدربه راجح الهميش: انعقدت جلسة واحدة فقط بتاريخ 2008/7/22، ورفعت المحكمة جلستها لمواصلة النظر في القضية في 20 أكتوبر المقبل بتأجيل جلساتها لمدة 91 يوما، وبحبس إجمالي نحو 7 أشهر بطبيعة الحال قد ينبري البعض بالقول إن فترة الاحتجاز لاتعتبر ضمن مدة الحبس الاحتياطي، وكذا أيضا لاتحتسب مدة الحبس الاحتياطي بدءا من بداية عقد المحكمة جلساتها، لكن السؤال المهم هنا هل المعتقلون محرومون من حرياتهم، وبالتالي معتقلون في سجون الأمن السياسي منذ تاريخ اعتقالهم في 3/31 إلى تاريخ نهاية الإجازة القضائية في أكتوبر القادم أم لا؟ أليس ذلك عقوبة دون صدور إدانة بحكم قضائي بات؟.

وفي نطاق الأمم المتحدة في التعليق العام رقم (8) للجنة المعنية بحقوق الإنسان لعام 1982، فيما يخص أحكام الفقرة (3) من المادة (9) للعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية «أن مدة الاحتجاز الإجمالية في انتظار المحاكمة ينبغي أن يكون إجراءً استثنائيا، وأن تكون مدته قصيرة إلى أقصى حد ممكن». وتشير اللجنة ضمن المبادئ الخاصة بالاحتجاز أيضا إلى أن الاحتجاز قبل المحاكمة «غير محبذ نهائيا وبدلا من ذلك تشجع المبادئ التدابير غير الاحتجازية»، وهنا يجب الإشارة إلى أن المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر ضمن توصياته في تقريرين متتاليين عن عامي 2006/2005 بإصلاح نظام الحبس الاحتياطي ووضع ضوابط صارمة لاستخدامه وتحديد نطاقه ومدته، لم تمض عدة شهور حتى صدرت التعديلات في بعض نصوص قانون الإجراءات الجنائية بالقانون 145 لسنة 2006، وصارت نافذة في 28 يوليو 2006، وامتدت بجانب إصلاح نظام الحبس الاحتياطي إلى إجازة اتخاذ تدابير قد تغني عن الحبس الاحتياطي ذاته لتحفظ على المتهم حريته، والجدير بالإشارة إليه هنا، أن البرنامج الانتخابي للرئيس مبارك الذي أعلن عنه في 17 أغسطس 2005 تضمن وعدا بمراجعة إجراءات الحبس الاحتياطي («الأهرام» بتاريخ 18 أغسطس 2006)، وللأسف لم يحدث ذلك في اليمن لا على مستوى وزارة حقوق الإنسان ولا على مستوى البرنامج الانتخابي للرئيس، وخصصت المادة 3/14/جـ من العهد الدولي المشار إليه سابقا لأن يحاكم المتهم دون تأخير لا مبرر له، وتتعلق هذه الضمانة، حسب تعبير اللجنة المعنية بحقوق الإنسان للأمم المتحدة، لا بالتاريخ الذي ينبغي أن تبدأ فيه المحاكمة فحسب وإنما أيضا بالتاريخ الذي ينبغي أن تنتهي فيه هذه المحاكمة، وأن يصدر فيها الحكم.

5) مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات:

سبق أن أشرنا في الحلقة الأولى إلى أن الجرائم والعقوبات لم يصدر بشأنهما قانون وفق المادة (47) من الدستور «لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على نص شرعي أو قانوني»، وإنما ما صدر هما قراران بقانون بالنسبة للإجراءات الجزائية وبالنسبة للجرائم والعقوبات، وفوق ذلك لم يتم عرضهما على مجلس النواب لإقرارهما!. ما يهمنا هنا الإشارة إليه يتعلق بأنه لايمكن ملاحقة أو معاقبة أي إنسان إلا بموجب نص قانوني، ولايصح للمحكمة إصدار عقوبة غير التي حددها القانون للجريمة المرتكبة، ويجب أن تكون عبارات التجريم واضحة ومحددة ولاتصاغ بعبارات مطاطة وتقريبية، فعلى سبيل المثال في المادة (131) من تشريع العقوبات التي أشار إليها قرار الاتهام لرئيس النيابة الجزائية المتخصصة الصادر في 22/4/2008 ضد باعوم والشعيبي والغريب تنص على عقوبات «إلغاء أو تعديل أو إيقاف الدستور أو بعض نصوصه» وفق الفقرة (1)، فتعبير إلغاء أو تعديل الدستور أمر مفهوم، ولكن إيقاف الدستور ماذا يعني بالتحديد، ما المقصود بتعبير (إيقاف) الدستور؟ وابتداءً من أي فعل يمكن اعتبار أننا أمام حالة إيقاف للدستور، والأدهى أن رئيس النيابة سعيد العاقل في قرار الاتهام استعمل من جانبه مفردة أخرى لم ترد في الفقرة (1) من المادة (131) وهي تهمة (تعطيل) أحكام الدستور، وهذه تختلف عن (إيقاف)، ولم ترد أصلا في المادة! إلى جانب لجوئه إلى مصطلح استحدث منذ أشهر قليلة (غرس روح الكراهية)، وموضوع المساس بالوحدة اليمنية لم تنص عليه مواد العقوبات، في حين أنه في أمر القبض الصادر في 2/1/2008 في خانة سبب القبض «القيام بأعمال إجرامية وانفصالية»، وتعبير انفصالي، والانفصالية لم ترد في تشريعي الإجراءات الجزائية ولا العقوبات، وهي تذكر بخفة واستخفاف كالقرار الجمهوري رقم (20) لسنة 1994، الصادر في 5 مايو 1994، بإعلان حالة الطوارئ بسبب تمرد عناصر «انفصالية في قيادة الحزب الاشتراكي على الشرعية الدستورية.. وما نتج عن ذلك من تهديد مباشر لوحدة الوطن»!! في حين أن الحرب المعلنة على الجنوب كانت في 5 مايو 1994، وإعلان الانفصال كرد فعل صدر في 21 مايو 1994 فكيف وصفت قيادات من الاشتراكي بالانفصالية، وهم لم يعلنوا الانفصال إلا بعد أكثر من أسبوعين من إشعال الحرب؟!.

الانفصالية والمناطقية تجريم الأشخاص: مثل قائمة الـ16 المحكوم عليهم في غالبيتهم بالإعدام كل أعضاء القائمة شخصيات جنوبية، ألم تكن هناك قيادات في الاشتراكي من بقية المحافظات غير الجنوبية، أليس غريباً أيضاً أن قادة الحراك المعتقلين حالياً هم جميعهم من الجنوب؟! إذا أخذنا جدلاً بمنطق السلطة أن المعتقلين متهمون بالانفصالية وضد الوحدة الوطنية، في هذه الحالة لماذا من عبأوا الجماهير جماعياً في مهرجانات ومظاهرات للتصويت ضد الاستفتاء على دستور الوحدة في 14-15 مايو 1991م علماً أن الاستفتاء على الدستور اعتبر كأنه استفتاء على الوحدة (وهذا غير صحيح إطلاقاً) لم يتم تجريم هذا الموقف ولم يتهم أفراده بالوقوف ضد الوحدة؟! هل لأن غالبية من اعترضوا على دستور الوحدة لم يكونوا من الجنوب ولحاجة السلطة إليهم وتحالفها معهم بعد ذلك بثلاث سنوات في حرب 1994م في حين يهاجمون الآن لأنهم أبدوا بعض التعاطف الخجول على مستوى المركز مع القضية الجنوبية، لكن السؤال الكبير الذي يجب طرحه بقوة هو أن الجمهورية اليمنية قامت على أساس تحقيق الوضعيتين الدوليتين السابقتين والديموقراطية كدعامتين للدولة الجديدة وهو مصدر اختلاف مبدئي مع التجارب الوحدوية العربية السابقة، فلماذا الإجراءات الجزائية والعقوبات تحرم وتعاقب من يمس بما يسمى «بالوحدة الوطنية» ولا تعاقب المساس بالديمقراطية وهي تنتهك يومياً من قبل زعامات السلطة وخاصة على مستوى حرية التعبير؟ يجب إيجاد مساواة في التجريم والعقوبات بين من له رأي في الوحدة مختلف عن النغم الرسمي للدولة، وبين من ينتهك مبادئ الحرية وحقوق الإنسان: لماذا ينص الدستور على التعددية السياسية إذا كان الجميع لهم مفهوم واحد للقضايا الأساسية؟ هل يمكن القول بوجود تعددية سياسية باستثناء ما يسمى بالثوابث الوطنية يجب أن يكون موقف الجميع موحدا حول موضوع أساسه سياسي ؟!

تجريم الاعتصامات فب حين أباحها القانون

هذا واحد من مئات الأمثلة للدولة التي تضع تشريعات للفرجة موجهة للخارج ولا تطبق في الداخل، فرغم أن قانون تنظيم المظاهرات والمسيرات رقم (29) لسنة 2003م استثنى في تسمية القانون نفسه الاعتصامات وفق المادة (19) بالقول «لاتسري أحكام هذا القانون على الاعتصامات والتجمعات المطلبية شريطة أن لا يتحول هذا الاعتصام أو التجمع المطلبي إلى مظاهرة ومسيرة» مما يعني عدم الحاجة إلى الترخيص المسبق لتنظيم اعتصامات وأيضاً التجمعات المطلبية وبرغم ذلك تصدر من وقت لآخر بيانات رسمية بمنع التظاهرات والاعتصامات غير المرخصة قانوناً كالذي صدر مؤخراً من قبل وزير الداخلية في 2/8 ، حيث طالب في بيانه «الأجهزة الأمنية اتخاذ التدابير الكفيلة بمتابعة مثل هذه الأعمال وملاحقة الأشخاص المنظمين لها والمحرضين على قيامها وإحالتهم للإجراءات القانونية» («الثورة» في 4/8/2008م) العدد (15972) وتهمة تنظيم أو المشاركة في الاعتصامات كانت من ضمن التهم التي وجهت للمعتقلين الجنوبيين.

6) عدم استقلالية القضاء وهل هناك عسكرة وأمننة للقضاء؟

دستور اليمن يؤكد في مادته (149) استقلالية القضاء واعتبار النيابة العامة هيئة من هيئاته وأكدت على استقلالية القضاة أيضاً وأن «لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية جهة وبأية صورة التدخل في القضايا أو في شأن من شؤون العدالة ويعتبر مثل هذا التدخل جريمة يعاقب عليها القانون ولا تسقط الدعوى فيها بالتقادم».

وتنص المادة (14) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المصادق عليه من اليمن على أن «لكل فرد الحق في محاكمة عادلة وعلنية أمام محكمة مختصة مستقلة ومحايدة مشكلة وفقاً للقانون».

وقد تناولت وثيقة «مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية لعام 1985م» مهمة إعطاء شرح مفصل للمادة (14) للعهد الدولي المذكور.. منها تأكيدها على ضرورة أن تفصل السلطة القضائية في المسائل المعروضة عليها دون تحيز على أساس الوقائع ووفقاً للقانون ودون أي تقييدات أو تأثيرات غير سليمة.. أن تكون للسلطة القضائية الولاية على جميع المسائل ذات الطابع القضائي كما تنفرد بسلطة البت فيما إذا كانت أي مسألة معروضة عليها للفصل فيها تدخل في نطاق اختصاصها، وبخصوص أعضاء النيابة العامة تشير الوثيقة الدولية إلى ضرورة اتخاذ الدول تدابير وقائية لضمان استقلال أعضاء النيابة العامة في مهنتهم ودون ترهيب أو تعويق أو مضايقة وينبغي لأعضاء النيابة بوصفهم وكلاء أساسيين لإدارة العدالة الحفاظ دوماً على شرف مهنتهم .. وأن تكون مناصب أعضاء النيابة منفصلة تماماً عن الوظائف القضائية.. إلخ..، السؤال ما مدى التزام السلطة والدولة بهذه النصوص والمبادئ؟ في كلمة الرئيس صالح في 19 أغسطس الماضي أمام المشاركين في اللقاء التشاوري الموسع الذي نظمه قطاع الفكر والثقافة والإعلام لحزب المؤتمر أشار حول ما تردد من الإفراج عن بعض المعتقلين بقوله:«يكون الإفراج عن من هم على ذمة قضايا سياسية، لكن قضايا جنائية لا، القضايا السياسية محبوس اللي عنده رأي، لكن واحد عمل اعتصام أمام الهاشمي أو في ساحة العروض في عدن ورفع العلم الشطري.. ونادى بجنوب عربي هذا يحتبس هذا جنائي ويحاكم..»؟

ألا تعني هذه العبارات أن الرئيس تحول إلى مُشرع في التعريف والتمييز بين ما هو جنائي وما هو سياسي، وتحديد نوع الفعل المجرم وعقوبته بالحبس؟ ألا يعد ذلك تدخلاً في شؤون السلطة التشريعية ، والنيابة العامة والقضاء؟ هناك عبارة وردت في محضر (اطلاع) بتاريخ 6/4/2008م للنيابة الجزائية المتخصصة ذكرت فيه استلامها محاضر جمع الاستدلالات الخاصة بالمتهمين باعوم والغريب ويحيى الشعيبي من الأمن السياسي.. واستلامها وثائق متعلقة بالقضية من وزير الداخلية «كما أنه يوجد في النيابة أوراق متعلقة ومتصلة بالموضوع بشأن طلبات أوامر القبض» ما المقصود بكلمة طلبات لماذا لم يستخدم تعبيرا مباشرا بشأن أوامر القبض وهل النيابة في حاجة إلى توضيح ما يوجد لديها من أوامر القبض وهي التي أصدرتها، أم أن استلامها وتسجيل ذلك المحضر لطلبات أوامر القبض يوحي أن الجهة التي تقدمت بطلبات القبض هي من خارج النيابة والداخلية والأمن السياسي؟.. مجرد تساؤلات بريئة!

أمننة وعسكرة القضاء والنيابة العامة؟

في العام الجامعي 1977 -1978 لاحظت أن معظم طلبتي في كلية الشريعة والقانون لجامعة صنعاء ينتمون للمؤسستين العسكرية والأمنية، لذلك لم أفاجأ بما ورد في محاضرة الزميل العزيز محمد ناجي علاو رئيس منظمة (هود) بمنتدى الشيخ الأحمر قوله «إن معظم قيادات القضاء في اليمن من خارج السلطة القضائية ومن ضباط الأمن والجيش وكثير من القضاة اليمنيين يعملون مخبرين» (صحيفة «الشارع» في 30/8/2008م العدد 63) فإلباس القضاة وأعضاء النيابة الثوب المدني ووضعهم في المحاكم المدنية، وهم ينتمون أصلاً للجيش والأمن مسألة خطيرة جداً، فالقضاة العسكر في المحاكم العسكرية رأيت نماذج منهم عند دفاعي عن القيادي ناصر النوبة كانوا على مستوى تأهيل قانوني رفيع ملتزمين بالقانون ولاحظت الآن في قضية معتقلي الجنوب على مستوى قيادة النيابة العامة وأعضاء النيابة سلوكياتهم غير مدنية وأسئلتهم في استجواب المعتقلين ذات طابع استخباراتي وأمني. فماذا يعني حظر التنصت، وحرمة المساكن وسرية المواصلات البريدية والسلكية من مراقبتها وفق الدستور والاتفاقيات الدولية، إلا في الحالات التي يبينها القانون وبأمر قضائي إذا كان أعضاء النيابة والقضاة من رجال الأمن ومخبرين في غالبيتهم لا تنفع الضمانات الدستورية وستغلب الاعتبارات الأمنية وتصدر تصاريح المراقبة بكل سهولة ويسر، ماذا يعني قرار الاتهام الذي أصدرته النيابة الجزائية الابتدائية المتخصصة في 22/4/2008 بخصوص المعتقلين الثلاثة «بأنهم خلال الفترة من عام 2006م حتى 31/3/2008 ارتكبوا أفعالاً إجرامية بقصد المساس بالوحدة اليمنية» في حين أن الحراك الجنوبي بدأ في مطلع 2007م ألا يعني ذلك أن الثلاثة كانوا تحت المراقبة الأمنية بمختلف أشكالها منذ عام 2006م قبل الحرك وماذا يعني أن أغلب أدلة الاتهام مبنية على تسجيل مكالمات شخصية وتسجيل وتصوير مشاركتهم في الفعاليات الجنوبية؟ برغم سخافة الأدلة وعدم قانونيتها، لكنها تعكس العقلية الأمنية والمخابراتية من خلال ما يتبين من المحاضر: ففي محضر 4/4/2008م سئل يحيى غالب الشعيبي بالنسبة للخط الأمريكي البريطاني كيف تفسر ذلك والعناصر القيادية الانفصالية التي منحت حق اللجوء السياسي في بريطانيا كيف تفسر ذلك وفتح مكاتب لتاج الآن وتناغم نشاط لندن مع نشاط تاج في أمريكا وامتداد ما ترفعه من دعوات وشعارات مع ما يجري في الداخل؟ وسؤال آخر في المحضر نفسه: خلال زيارة السفير الأمريكي لمقر صحيفة «الأيام» في عدن في يوم 9/3/2008م بماذا استقبلتم السفير؟ وفي محضر 8/4/2008م مع الشعيبي: سؤال هل كلفت بمهام من قبل الحزب الاشتراكي وما هي ومتى؟ هل كلفك بإعداد ملف للمتقاعدين وعرضه على ممثل الأمم المتحدة مع شريط مصور لكل ما قمتم به تحت مسمى الحراك؟ وفي محضر 5/4/2008 وجه سؤال للأخ على هيثم الغريب: كونك أحد الأشخص الذين أعدوا لما يسمى بملتقى التصالح والتسامح، الذي عقد في مقر جمعية ردفان بالمنصورة بتاريخ 13/1/2006م اشرح بالتفصيل ماذا دار في هذا الملتقى وماهي الكلمة التي ألقيتها أنت وما هي المهام المناط بك أداؤها؟ من الواضح الطابع الاستخباراتي لمثل تلك الأسئلة التي لا تربطها علاقة مباشرة بالتهم الموجهة للمعتقلين إنما الغرض منها جمع أكبر قدر من المعلومات لأهداف أخرى.

ثانيا: تجربة الدكتور محمد علي السقاف في الاعتقال وأبعادها القانونية:

لن أدخل كثيراً في تفاصيل تجربتي الشخصية في الاعتقال، التي أدخل فيها لأول مرة في حياتي في سجن ولأول مرة أواجه استجوابا ولذلك وإن كانت التجربة قصيرة المدة، لكنها مثيرة وغنية بالدروس والعبر!

1- الوقائع: بسبب ارتباطاتي المهنية خاصة كمحام للأخ حسن باعوم، الذي كان من المفترض عقد جلسة للمحكمة الجزائية الابتدائية المتخصصة لمحاكمته في يوم 4/8/2008، وبسبب الارتباطات المهنية لزوجتي المحامية الرائعة شذى محمد ناصر قررنا السفر في إجازة قصيرة إلى دبي بدلاً من باريس لزيارة بعض أفراد أسرتي في الإمارات وشراء احتياجات أطفالي مع بدء دراستهم، توجهنا في يوم الإثنين 11/8 إلى مطار صنعاء الدولى لركوب طائرة الإمارات في طريقنا إلى دبى بعد الانتهاء من إجراءات السفر أمام الإماراتية، توجهنا إلى الجوازات للمغادرة، ومرت الإجراءات بسهولة للزوجة والأطفال وطلب مني الانتظار نحو ساعة تم بعدها تسليمي الجواز وتوجهنا وأفراد الأسرة لركوب الباص المتجه إلى الطائرة وهنا لحق بنا أحد رجال الأمن وأوقف الباص وطلب مني العودة إلى صالة المغادرة وأخذ مني جواز السفر بحجة استلام الأمن القومي من المطار مكالمة هاتفية من رئيس النيابة الجزائية المتخصصة الأستاذ سعيد قاسم العاقل، الذي أمرهم بمنعي من السفر ومصادرة جواز سفري وإحضاري إلى النيابة الجزائية المتخصصة، وذكر أن بإمكان زوجتي والأطفال أن يسافروا من دوني وهو العرض الذي رفضوه بشدة لذلك استعيدت حقائبنا من الطائرة.

المضحك والمبكي في هذه الوقائع أن رجال الأمن القومي الذين كانوا على مستوى المسؤولية والاحترام ذكروا أنه يترتب علينا استئجار سيارة أجرة على حسابنا للذهاب إلى مقر النيابة الأمر الذي رفضته رفضاً قاطعا ودبروا هم الأمر بسيارة (أجرة) أمنية أوصلتنا إلى عند السيد/ العاقل الذي لم يوجه إليَّ أي تهمة أو سبب الاعتقال لأنه لم يستلم بعد ملف التهمة من الأمن السياسي وحتى يستلم ذلك وجه باعتقالي وإيداعي سجن البحث الجنائي. في الطريق من المطار إلى النيابة تمكنت زوجتي المحامية من الاتصال هاتفيا برئيس النيابة المتخصصة سعيد العاقل الذي أوضح لها أنني ممنوع من السفر من تاريخ 21/5/2008م من ضمن (52) شخصية بتعليمات من جهاز الأمن القومي، ومن جانبي تواصلت مع الدكتور العلفي النائب العام هاتفياً وادعى أن ليس لديهم علم بالموضوع؟؟ بوجودنا في مكتب رئيس النيابة العاقل حدثت مشادة معه حول الأسلوب الحضاري لدولة اليمن السعيدة الديموقراطية في التعامل غير القانوني معي، وبدوره أكمل السائق الشخصي له كيل الشتائم بأنني حبشي! وكدت أضحك من هذا القول، لأنه لا يزعجني إن كان ذلك صحيحا وهو غير صحيح ولو كانت والدتي التي هي من مديرية الشحر لما وفرت عليه ما يستحقه من توبيخ وفي أدب التخاطب مع الآخرين. وبدخولي سجن البحث الجنائي صباح يوم الإثنين نفسه 11/8 وأنا أرتدي بدلتي لمحني أحد الزملاء كان معي في البنك الأهلي التجاري السعودي في المنطقة الشرقية وعرفني بالمسجونين كرجل قانون ومحام بإمكانهم الاستعانة بي في شرح ظروف اعتقالهم وتحمس عدد من شباب صعدة الذين انتزعوا من مقاعد جامعة صنعاء وهم في مرحلة الاختبارات وعددهم نحو عشرين شاباً حاولت مساعدتهم بقدر الإمكان واستعدادي الإفصاح عن مكان اعتقالهم إذا خرجت قبلهم، وما آلمني وجود 2 من أصل 6 معتقلين من البهائيين ذوي التأهيل العلمي العالي متهمين بعد إقامتهم في صنعاء نحو ثلاثين عاما الترويج لمذهبهم البهائية وهذه من التهم السخيفة لبلد يدعي إيمانه بالوسطية في الدين واحترام الأديان والمذاهب الأخرى يقومون مع اعتقالهم بنهب ممتلكاتهم الشخصية والعبث بها وتهديدهم باحتمال طردهم إلى إيران بلدهم الأصل، كنوع من العقوبة وربما يفرض الابتزاز إلا أن روح التضامن والتآخي بين مختلف المعتقلين داخل المعتقل خلف جواً من التضامن والمحبة بين المعتقلين. الأشياء السلبية للغاية في سجن البحث الجنائي الذي يقال أنه يمثل 5 نجوم مقارنة ببقية السجون علماً أن على السجين استئجار فرش خفيف وبطانية للنوم على أساس يومي، لا يقدم في السجن غذاء للمسجونين وعليهم المساهمة في تكاليف الوايتات لإحضار الماء للاستحمام والوضوء، يعانون من انطفاء الكهرباء، وحالة المراحيض القذرة والعدد الكبير من المساجين في كل صالة إيواء ونوم لهم واستعمال بعض الحرس سياسة ابتزاز المساجين لإلزامهم بجمع تبرعات مالية كل ليلة على أساس وجود حالات إسعاف لأقارب الحرس ويطلب من المسجونين في علاجهم. لن أقف مطولا في شرح الحالة المتردية لأوضاع السجون التي هي بعيدة كل البعد عن مجموعة مبادئ الأمم المتحدة بشأن السجون لعام 1977م و1978م بتوفير سرير فردي لجميع الغرف المعدة لاستخدام المسجونين ولوازم لهذا السرير مخصصة له وكافية تكون نظيفة لدى تسليمه إياها وتستبدل في مواعيد متقاربة، يجب أن تفرض على السجناء العناية بنظافتهم الشخصية من خلال توفير الماء لهم وما تتطلبه الصحة والنظافة من أدوات.. كل هذه الأشياء معدودة كما ذكرنا وعلى السجين ترتيب أوضاعه بنفسه بما ذلك إحضار غذائه بنفسه عبر أفراد أسرته، ومن هم محتجزون قسرا دون علم ذويهم عليهم الاعتماد على كرم بقية السجناء في إشراكهم معهم تناول الطعام. في اليوم التالي أي يوم الثلاثاء 12/8 صباحاً تم اقتيادي مقيداً إلى مكتب رئيس النيابة الجزائية ليجري معي تحقيق لأكثر من ساعتين بوجود زوجتي المحامية في مواجهة أعضاء النيابة لتقديم إيضاحات حوال مقالات صحفية كتبتها خاصة في «الأيام» كـ«الوحدة المعمدة بالدم من أجل نفط الجنوب وليس من أجل الوحدة»! ومداخلاتي في الضالع والكلمة التي ألقيتها، تقرر بعد ذلك الإفراج عني بتشاور رئيس النيابة الجزائية والنائب العام، الذي اشترط تقديم ضمانة تجاربة مقبولة للإفراج عني في حين كان بإمكانه إطلاق سراحي دون كفالة التي قبل تقديمها لنا أحد أقارب العائلة، والوضع الآن بعد أكثر من 3 أسابيع من العيش كرهينة ممنوع من السفر محتجز جواز سفري بحجة وجود ملف ضخم يراد استجوابي حوله أعد من قبل جهاز الأمن القومي. فالمسألة برمتها مخالفة للقوانين اليمنية بسيئاتها والالتزامات اليمنية الدولية، تكشف هذه القضية مدى هشاشة النظام السياسي وأنه يقع الآن في مفترق الطرق وليس جميع الناس أوضاعهم متساوية في عدم إمكانية وجود بدائل أخرى للسفر ولا حرص لهم بالضرورة الاحتفاظ بجواز السفر المحجوز لديهم الذي يشكل عبئاً لكل حامله في المطارات الدولية من ميزة يمكن الافتخار بها لهذا يؤمل ترجيح السلطات العقل والحكمة في التعاطي مع هذه القضية الفردية.

ثالثا: الخلاصة:

نداء موجه للدول المانحة والمنظمات الحقوقية المحلية والدولية: إنني حاولت إبراز بعض الجوانب لعدم احترام هذه الدولة لتشريعاتها الوطنية والاتفاقيات الدولية التي تدوسها بقدميها دون رادع، فالدول كبريطانيا التي تعهدت في 23يوليو الماضي بتقديم 14 مليون دولار لدعم الإصلاحات القضائية والأمنية ناهيك عن أوجه دعم أخرى من الدول المانحة واضح أنها سكبت في قربة مخرومة، حيث القضاء والسجون تزداد سوءًا كل عام ولا يلمس المواطنون أي تحسن مما يدعو الحاجة إلى إعادة النظر في تعاملكم مع هذه الدولة فهل تفعلون؟.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى