ما أشبه الليلة بالبارحة

> د.عبدالباري دغيش :

> في حرب الإخوة اليمنيين (صيف 1994)، استهلكت- إلى حد كبير- مقدرات شعب ووطن كانت تشكل قوة إستراتيجية عند البوابة الجنوبية للوطن العربي، وعلى ما أظن أنه كان بوسع تلك القوة حماية المياه الإقليمية اليمنية والجوار في خليج عدن.

فكم هي الصواريخ التي قضّت مضاجعنا في أمسيات ذلك الصيف المفزع المريع!، وكم من القوارب الحربية أحرقت وأغرقت!، وكم من القنابل الذكية استخدمها (الحمقى) لقتل بعضهم بعضا!.. واليوم وبعد ما يقارب العقد والنصف من السنين على انقضاء تلك الحرب المأساوية كيف هو واقع حالنا؟، ومالنا نشكو مرارا وتكرارا اختطاف صيادينا وغيابهم لأشهر طوال ومصادرة قواربهم وأرزاقهم!، وهل وصلنا إلى الحد الذي لانستطيع معه حماية مواطنينا وأملاكهم أمام قراصنة الجوار عبر البحر؟، وكم هي مراكب الصيد التي تمارس القرصنة منذ أمد بعيد في بحارنا، ناهبة ثرواتنا السمكية والمائية، ومدمرة بيئتنا البحرية!، وكم هي السفن التي ترمي مخلفاتها في سواحلنا ناشرة الموت والتلوث والسموم دون رقيب أو حسيب!.. كيف هي إمكانياتنا لتأمين السلامة والسلام في بحارنا؟، ثم أليس في أحداث الخطف والقرصنة المتلاحقة تنفير وتخريب لجهود جذب الاستثمار المعول على مجيئه إلى الموانئ اليمنية من أجل توفير فرص عمل وتحقيق نهضة تنموية في الوطن؟.

ومع كل تقديرنا لجهود مصلحة خفر السواحل اليمنية كمؤسسة أمنية حديثة ورائدة تتصدى لبعض المخاطر التي تهدد أمن الحدود البحرية وسلامة الملاحة الدولية في مياهنا الإقليمية، إلا أن إمكانياتها لم ترتق بعد إلى تغطية كل المهام.. كما نتساءل هل نستطيع نحن وإخوتنا في القرن الأفريقي القيام بمهام حماية هذا الممر الحيوي المهم من أعمال القرصنة، وماذا لو لم نستطع ذلك؟، هل يبرر وضع كهذا تدخل القوى العظمى في شؤون المنطقة، في ظل تسابق الأقطاب الدولية وتنافسها على منابع النفط ومصادر الطاقة في شرق المتوسط وقارة أفريقيا؟.

إن أحداث القرصنة في خليج عدن- حتما- تبرر لتدخل القوى العظمى، وأكثر من ذلك ربما تغري بعودة السيطرة الاستعمارية والاحتلال المباشر للمنطقة برمتها، ولنا عبرة بالنظر في التاريخ، فمعظم الروايات البريطانية تصف احتلال عدن في سنة 1839 على أنه شرعي ومبرر ضد أعمال القرصنة التي اقترفت حينها بحق السفينة (داريا دولت) الرافعة لعلم الإمبراطورية التي لاتغرب عنها الشمس.. فهل يعيد التاريخ نفسه؟، ربما بلاعبين جدد بعض الشيء.. إن أهمية خليج عدن وباب المندب وسواحل القرن الأفريقي كبيرة وعظيمة وتتجاوز عناوين الملاحة الدولية إلى القيمة الإستراتيجية والاقتصادية والعسكرية، لتأمين مناطق النفوذ والطاقة في شرق المتوسط وقارة أفريقيا، حيث مستودعات المواد الخام لدول العالم الرأسمالي، وحيث النفط سهل الإنتاج رخيص الكلفة.. ولكن ما علاقة كل ذلك بأعاصير القرصنة البحرية في مياه خليج عدن وتلاحقها باختطاف السفن واحدة تلو الأخرى، ومن جنسيات شتى؟.. وما وراء تلك الأعاصير التي أحاقت وألحقت بالتجارة وبحركة النقل أضرارا فادحة، ورفعت أقساط التأمين على السفن المُبحرة في المنطقة إلى أرقام مهولة؟.. ثم لماذا صمت العالم مطولا تجاه أوضاع الصومال التي تجاوزت في دراميتها حدود المعقول، فأنتجت كل هذه التوترات والمآسي والآلام؟!.. ومع أنني لست مهووسا بنظرية المؤامرة، ولست مسكونا بهواجس قراءة المستقبل فإنني أتساءل: ألا تشكل كل تلك الأحداث مقدمات لحقبة استعمارية جديدة ربما بمسميات مستحدثة؟، ألا تحرج أعمال القرصنة الهمجية دول المنطقة المطلة على خليج عدن نازعة ورقة (التوت) عن عجز مقدراتها في تأمين مياهها الإقليمية؟، وماذا يعني كل هذا الانفلات؟، وإلى أي شيء يُقدم؟.. نعلم أن القوى العظمى لن تصمت تجاه وضع كهذا، طبعا إذا لم تكن هي ذاتها صاحبة السيناريو ومؤلفة المسرحية في منطقة ليست سوى صالة عرض لفصول تلك المسرحية التي يؤدي اليوم أدوارها ممثلون محليون ينتمون لدول سقط الكثير من مواطنيها في هاوية اليأس والإحباط جراء الحروب الأهلية والإخفاقات الاقتصادية والمجاعات المتلاحقة.. إن خليج عدن الذي نسمع اليوم عن القرصنة في مياهه ليس ببحر الظلمات، وليس بمثلث (برمودا)، ولا هو بمجاهل رأس الرجاء الصالح.. إنه الخليج الذي كان- حتى وقت قريب- آمنا، فأصبح اليوم على ما هو عليه.. فما السر وراء أحداث القرصنة؟!، وأين يا ترى سفن قوات التحالف التي تملأ الخليج والبحر والمحيط؟، وأين الأقمار الاصطناعية التي ترصد كل شيء في البر والبحر والسماء؟، وأي الفصول سنشاهد لاحقا؟، ويا ترى هل ستتكرر قصة (داريا دولت) في الصومال أو غيرها بحجة مكافحة الإرهاب وحماية حركة النقل والتجارة الدولية؟.. أخيرا: هل يعيد التاريخ نفسه؟.. فما أشبه الليلة بالبارحة!!.

* عضو مجلس النواب

MP - A.BARI DUGHAISH

[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى