وقفة رجاءً..

> فضل النقيب:

> المثل اليمني يقول: «الدهر كله عمارة.. متى يكون السكون؟» وأنا أفضل نظرا لما عايشناه وعشناه من مد وجزر (طبعا جزر السياسة ومدها، وليس الجزر بالسكاكين، وقد عرفناه وخبرناه وتجرعناه حتى وصلت الدماء إلى الركب وبلغت الأرواح إلى الحلاقيم) منذ ثورتي 26 و 14 اللتين تجاوزتا اليوم الأربعين عاما، وهو سن النبوة ورجحان العقل ومعرفة النجدين.. أقول، أفضل أن يكون المثل: الدهر كله إغارة.. متى يكون السكون؟.

السكون في المثل الأصلي يشير إلى سكن العمارة التي غالبت الزمن وطاولته، ومازالت على (العظم) كما يقول المعماريون، أما السكون في التحريف، فيعني رسوخ العقل، وسكينة النفس، والاطمئنان إلى الهداية، والتعاون على البر والتقوى، وإبطال أعمال الإغارة على أنفسنا وعلى بعضنا لنتفرغ للعمل والبناء معا (حكومة ومعارضة، عمالا وفلاحين، نساءً ورجالا، أولاد الست المحظوظين، وأولاد الجارية المنكوبين، مهاجرين ومقيمين، عساكر وقبائل، نهابين ورهابين، تجارا وحمالين، أصحاب الجبال العالية وأصحاب البحار الشاسعة وأبناء الصحراء القاحلة)، وطننا يتسع لنا جميعا إذا اتسعت الأنفس، ورحبت الأخلاق، وعمت المحبة، وانشغلنا عن الصغائر بالعظائم، وعن النواح بشحذ الهمم.

أحيانا أتساءل وأنا أرى النفوس المتنمرة والألسن المتذمرة والنكايات المتطايرة وأعمال الإرهاب العشوائية ووضع العراقيل أمام الإصلاح أيا كانت درجته، ووصم الأبيض بالأسود، لأنه جاء من فلان، وتسمية الأسود بالأبيض لأنه من طرف علان.. هل في هذه الرؤوس اليابسة قبس من النور؟. هل في هذه الشظايا التي يقذف بعضها بعضا شيء من الرشد؟. وهل بين الزعماء الذين يشمخون برؤوسهم كرؤوس مزرعة البصل من يراجع أقواله وأفعاله في هدأة على محك الضمير؟. لماذا الأكثر تطرفا يقود المعتدلين، بل إنه يسوطهم كما تساط النعاج فينجرفون إلى أية داهية وهم يحركون أذيالهم خوفا وطمعا؟. لماذا الحمقى يتمكنون من العارفين، والجهلة يسفهون المتعلمين، والأغلبية الصامتة تلوذ بالظلال طلبا للسلامة، والعامل لايدري متى يأتيه الهامل فيخطف اللقمة من فمه وأفواه أطفاله؟. هل نحن فقراء إلى حد التسول أم أن بلدنا يزخر بالخيرات في جباله وبحاره وصحرائه؟.

فقط علينا أن نلتقط أنفاسنا من هذه المكايدات العبثية والمكايدات البهلوانية، وأن نمنح أنفسنا الفرصة لكي نلتقي على كلمة سواء، ونبدأ بعدها الحركة إلى الأمام، إخوة متحابين في عائلة واحدة، نؤمن بسنن التطور وننشرها بين الناس، نشيع التعليم والتأهيل والتخصصات الدقيقة، نثق في أنفسنا فلا تؤلبنا طبلة ولاتفرقنا عصا، نمد أيدينا إلى العالم للتعاون وتبادل المصالح، وذلك بإصلاح دواخلنا والحفاظ على تعهداتنا وإقرار أمننا، فالاستثمارات والخبرات تتدفق إلى البلدان الآمنة المعاهدة، كما يتدفق الماء إلى الأراضي الواطئة، وتنفر من البلدان القلقة المقلقة، لأن رأس المال لايذهب إلى بلد كي يخوض قتالا، ويدخل في نزاعات، ويشارك تنابلة لايفكرون سوى في الأخذ والابتزاز، وإلا اصطنعوا له المشاكل، وأضاعوا وقت أصحابه، وأدخلوا الرعب في أنفسهم.. ألا ما أغنى هذا الرأسمال عن هذا البلد، وما أزهده بعوائده، وفي الأخير على نفسها جنت براقش.

أربعون عاما ونيف، ولم نزل في الصفحة الأولى، لا شك أننا حققنا أشياءً كثيرة، ولكن ما لم نحقق أكثر، وبنينا وأعلينا البناء، ولكننا لم نحسن الرعاية والصيانة، وقطعنا أشواطا في الديمقراطية والحريات العامة على مستوى القوانين والقرارات، ولكن العمل لم يتخلص من الأساليب البالية والقديمة والمتهرئة، والله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ونحن لم نغير ما في أنفسنا.. مؤسساتنا قبْيَلَة، وأحزابنا مهزلة، وخلافاتنا فهلوة وحكولة، ومن أجل الحصول على المائة ندفع الثمانين، وأحلى ما في أدبياتنا ما قاله علي بن الفضل القرمطي: «إنما الدنيا شاة، من ظفر بها ذبحها وسلخها، وتمتع بلحمها وشحمها».

وقفة أيها السادة.. انظروا ما يجري حوالينا من نماء ومن تقنية، ومن مضاعفة الثروات واجتذاب الاستثمارات، وتشجيع التجارة والسياحة، والبحث الدائب عن الموارد الطبيعية التي تختزنها الأرض في باطنها وظاهرها.. وقفة لنفكر من أين وإلى أين جرفنا طوفان العولمة على غرة. ونحن عراة إلا من فقرنا وجهلنا!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى