رب جارية خير من بطانات لاتسمن ولاتغني من جوع

> نجيب محمد يابلي:

> التاريخ العربي في مختلف عصوره، القديم والوسيط والحديث (باستثناء القليل منه), يتسم في غالبه بالتأزم والدموية والتآمر، والحاكم العربي لايستفيد من دروس الماضي التي تعيد نفسها في كل مرحلة رغم المرجعية التي لاتباريها مرجعية، والتي تتمثل بالكتاب والسنة، ولايزال الحاكم العربي- إلا من رحم الله- رهن بطانة ومراكز نفوذ لاترعى إلا مصالحها.

والحكاية تختزل نفسها في موضوع للكاتب المصري عباس خضر، موسوم (العالم كله في حكاية من ألف ليلة وليلة)، نشرته «العربي» الكويتية في العدد (279) الصادر في فبراير 1982، ويقع في خمس صفحات، وملخصه أن شابا ورث عن أبيه مالا غزيرا وجارية اسمها (تودد)، جمعت بين غزارة العلم وجمال القسمات والصوت وحدة الفطنة ومهارة التعامل مع الموسيقى.

بدد ذلك الشاب ثروته وحار في أمره وضاقت الدنيا عليه وحشرته في خرم إبرة.

عرضت الجارية على سيدها أن يقدمها إلى الخليفة هارون الرشيد، ويعدد له مزاياها، ويحدد سعرها بعشرة آلاف دينار، ووقفت (تودد) أمام علماء كبار يسألونها ما يشتهون من الأسئلة.. وكانت البداية:

- أيتها الجارية من ربك ومن نبيك ومن إمامك وما قبلتك ومن إخوانك وما طريقتك وما منهاجك؟

- الله ربي ومحمد نبيي والقرآن إمامي والكعبة قبلتي والمؤمنون إخوتي والخير طريقي والسنة منهاجي.

- أيتها الجارية بما عرفت الله؟

- بالعقل..

- وما العقل؟

- العقل عقلان: عقل موهوب وعقل مكسوب، فالموهوب هو الذي خلقه الله عز وجل، والمكسوب هو الذي يكسبه بتأدبه وحسن معرفته.

تنهال أسئلة العلماء على الجارية وهي تجيب، حتى سألها أحدهم عن معاني الصلاة والصوم والحج والجهاد في اللغة، فقالت: الصلاة الدعاء والصوم الإمساك والزكاة الزيادة والحج القصد والجهاد الدفاع.

قالت الجارية: سألتني كثيرا، وأنا أسألك سؤالا واحدا هو: ما فروع الإسلام؟. أخفق العالم في الإجابة، فقالت الجارية:

انزع جبتك وأنا أفسر لك.. فقال الخليفة: فسري، وأنا أنزع ما عليه من ثياب.

قالت: هي اثنان وعشرون فرعا: التمسك بكتاب الله تعالى، والاقتداء برسوله، وكف الأذى، وأكل الحلال، واجتناب الحرام، ورد المظالم إلى أهلها، والتوبة، والفقه في الدين، وحب الجليل، واتباع التنزيل، وتصديق المرسلين، وخوف التبديل، والتأهب للرحيل، وقوة اليقين، والعفو عند المقدرة، والقوة عند الضعف، والصبر عند المصيبة، ومعرفة الله تعالى، ومعرفة ما جاء به نبيه صلى الله عليه وسلم، ومخالفة اللعين إبليس، ومعرفة النفس ومجاهدتها، والإخلاص لله.

سألها أحدهم: ياجارية، أخبريني عن ثلاثة تمنع ثلاثة. قالت: روي عن سفيان الثوري أنه قال: ثلاثة تذهب ثلاثة: الاستخفاف بالصالحين يذهب الآخرة، والاستخفاف بالملوك يذهب الروح، والاستخفاف بالنفقة يذهب المال.

سألها آخر: أخبريني عن شيء ونصف شيء ولا شيء.

قالت: الشيء هو المؤمن ونصف الشيء هو المنافق واللا شيء هو الكافر.

الكلام كثير ومفيد، والمجال لايسمح بالإفاضة، وأكتفي بنهاية المجلس عندما قال الخليفة للجارية: «بارك الله فيك، وجزى من علمك خيرا»، وأمر لمولاها بألف دينار، وقال لها: «ياتودد تمني ما شئت!». قالت: أتمنى أن تردني إلى سيدي. فردها إليه، وأعطاها خمسة آلآف دينار لنفسها.

الحكاية غنية بالاستقراءات والاستنتاجات، ولا مفر أمام القارئ إلا أن يسلم بهذه المقولة: رب جارية خير من بطانات لاتسمن ولاتغني من جوع!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى