في رحاب ثورة 14 أكتوبر الخالدة

> يحيى عبدالله قحطان:

> قال الله تعالى: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا } ، كم هو عظيم أن يحتفل شعبنا اليمني هذه الأيام بأعيادة الوطنية المفعمة بأريج نفحات شهر الصيام والقيام وبركات عيد الفطر السعيد، والفياضة بذكريات مسيرة شعبنا الجهادية وملاحمه البطولية التي خاضها منذ الاحتلال الإنكليزي لأرضنا اليمنية عام 1839م، حيث نحتفل بالعيد 46 لثورة سبتمبر والعيد 45 لثورة أكتوبر والعيد 41 للاستقلال الوطني المجيد في 30 نوفمبر عام 67م، وجلاء آخر جندي أجنبي من يمننا الحبيب ومن عدن الباسلة ثغر اليمن الباسم التي نتمتع هذه الأيام بحضنها الدافئ، ورحابها الحاني ونتدثر بردائها الوحدوي بعد ليل الاستعمار البغيض والتشطير البهيم.

إنها عدن الأبية دوحة اليمنيين التي يجب أن تمتد لها اليد الحانية لإصلاح ما أفسده الدهر، وتكون ثغر اليمن الباسم بحق وحقيقة.

لقد جسدت ثورة 14 أكتوبر المنتصرة بانطلاقتها المباركة مسيرة شعبنا الجهادية والنضالية، واستلهمت هذه الثورة خياراتها الوطنية وإرادتها الجهادية والكفاحية من تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف الذي يأبى الضيم والهوان ويرفض الظلم والطغيان، وانطلاقاً من هذه العقيدة الإسلامية الجهادية عقيدة الحرية والفداء والعزة والإباء والبذل والعطاء وتتويجاً لمسيرة شعبنا الجهادية والنضالية التي خاضها منذ يوم الاحتلال المشؤوم.

انطلقت ثورة 14 أكتوبر المجيدة من على قمم جبال ردفان الشماء عام 1963م بقيادة الجبهة القومية رائدة الكفاح المسلح كحركة ثورية جهادية وطنية.. عبرت عن طموحات جماهيرنا وآمالها في التخلص من كابوس الاستعمار ومخططاته الجهنمية، وهكذا كانت ثورة 14أكتوبر الظافرة على موعد مع القدر، قدر شعبنا في الخلاص والانعتاق من الاحتلال الأجنبي، حيث قدم شعبنا بثورته الرائدة تضحيات جساماً وقوافل من الشهداء الكرام حتى تحقق الاستقلال الوطني الناجز في 30 نوفمبر عام 1967م وصدق الله القائل: { وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم } .

لقد كان من الخطوات الأولية التي قامت بها الثورة بعد الاستقلال مباشرة، توحيد المناطق الجنوبية والمشطرة إلى أكثر من 23 ولاية ومشيخة وسلطنة.. وهكذا قام النظام الوطني (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية) برئاسة الأخ المناضل الوحدوي قحطان محمد الشعبي رحمة الله عليه كخطوة أولية لابد منها، نحو تحقيق الوحدة اليمنية سيراً نحو تحقيق الوحدة العربية، كما قامت الجمهورية الفتية بمناصرة النظام في صنعاء وتداعى المناضلون من كل أنحاء الجنوب للدفاع عن الجمهورية وفك الحصار عن صنعاء. وأثبتت الأحداث الترابط العضوي والتكامل النضالي بين ثورتي سبتمبر وأكتوبر المجيدتين، وهكذا مثلت ثورة 14 أكتوبر العمق الاستراتيجي والقاعدة الخلفية لثورة سبتمبر التي كانت تتخاطفها الأيدي من كل جهة.

ويخطئ من يعتقد أن استقلال الجنوب وقيام حكومته الوطنية المستقلة قد مثل ذلك نزعة انفصالية. ذلك أن النظام الجمهوري في صنعاء لم يقف بعد على قدميه وكاد أن يسقط بيد الملكيين لولا استبسال مناضلي سبتمبر وأكتوبر والقوى الوطنية، ودعم مصر عبدالناصر. حقاً لقد جسد مناضلو سبتمبر وأكتوبر وحدة المسار التاريخي للثورة اليمنية، التي كان من أهدافها الاستراتيجية تحقيق الوحدة اليمنية على أسس سلمية وديمقراطية، كما أنه من الخطأ أن نسفه وننتقص من نضالات شعبنا، ونتهم ثورة 14أكتوبر بقيادة الجبهة القومية بالعمالة لبريطانيا، كيف ذلك والجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل قد خاضت بفدائييها البواسل وجماهير شعبنا المناضلة أشرف وأشرس معركة شهدتها الساحة اليمنية ضد جحافلة الغزاة المستعمرين، وأرغمت الاستعمار البريطاني على الرحيل من اليمن الجنوبي عنوة ومن دون قيد أو شرط في 30 نوفمبر عام 1967م، وبغض النظر عن الإنجازات والإخفاقات والسلبيات والإيجابيات والأخطاء ظلت الوحدة اليمنية هاجس مناضلي أكتوبر والقيادات الجنوبية المتعاقبة، بل لقد وصل عشق الجنوبيين للوحدة والتشوق لها بفارغ الصبر وترجمة ذلك عملياً، حيث كان المواطن الشمالي القادم إلى الجنوب يحظى بالمواطنة المتساوية مع أخيه الجنوبي، كما كان شعار المراسلات والقسم الذي يعلن يومياً في المدارس ومؤسسات الجيش والأمن «لنناضل من أجل الدفاع عن الثورة اليمنية.. وتحقيق الوحدة اليمنية».

وهكذا بفضل جسور التواصل والحوار المسؤول الذي قاده الأخ المناضل الرئيس علي عبدالله صالح مع إخوانه المناضلين رؤساء الجنوب وآخرهم الأخ المناضل علي سالم البيض تحققت الوحدة اليمنية على أسس سلمية وديمقراطية في 22مايو عام 1990م ذلك أن الوحدة اليمنية قد رضعها شعبنا غضاً طرياً وترسخت في وجدان وضمير ودماء شعبنا اليمني منذ الأزل. وقد تأكد ذلك واكتمل بوحدة النسيج الاجتماعي والوشائج الرحمية والنسبية لشعبنا، واعتناق شعبنا الإسلامي طواعية عقيدة وشريعة.. إنها عقيدة الحرية والعدالة والمساواة.. عقيدة الوحدة والمحبة والإخاء، عقيدة التعاون والتضامن والتكافل والسلام.

إنها المبادئ والقيم العظيمة التي تلاقت مع المكنون التاريخي والتراثي والثقافي لشعبنا، وتفاعلت مع المسيرة النضالية والوحدوية التي كانت ولاتزال المحفزة للثورة والوحدة والمغروسة في أودية قلوب وضمائر اليمانيين حتى يرث الله الأرض ومن عليها. والشاهد على ذلك فعندما بدأت إرهاصات تباشير الاستقلال تلوح في الأفق، وخاصة بعد أن حررت الجبهة القومية معظم المناطق الريفية منذ شهر يونيو 67م قررت إحدى جبهات القتال إنشاء صندوق التكافل الاجتماعي بحيث تكون موارده مرتبات الموظفين الذين يستوعبهم الجهاز الإداري الوطني، ثم يعاد توزيع ذلك بالسوية على كل المناضلين. مسترشدين بالتكافل الاجتماعي الإسلامي، وبنهج أمجادنا الأنصار الذين امتدحهم الله بقوله { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } ، وكذلك بنهج أسلافنا الأشعريين الذين امتدحهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: «هم مني وأنا منهم».

هكذا كان الإيثار والتجرد عن الذات والتحلي بالنقاوة الثورية والوطنية لدى مناضلي ثورة 14 أكتوبر الخالدة.

والسؤال الذي يضع نفسه: هل لاتزال البشاشة الإيمانية والنقاوة الثورية والوطنية تراود قلوب مناضلي الثورة كما عهدناهم في مرحلة التحرير؟

ولا ريب أنه بعد مرور أكثر من 45 عاماً لانطلاقة الثورة اليمنية تحققت إنجازات كثيرة لا يمكن إنكارها، ولكن يلاحظ أن هناك بقية لأهداف الثورة لم تتحقق بعد من أهمها:«إزالة الفوارق والامتيازات بين طبقات المجتمع، رفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً.. وإنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف، وتحقيق مجتمع الكفاية والعدل، وإيجاد نوع من الاكتفاء الذاتي، وتحقيق الأمن الغذائي والأمن القومي».

وفي هذا الصدد أكدت التشريعات النافذة على هذه الأهداف. جاء في المادة الثالثة من دستور دولة الوحدة:«الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات» وجاء في المادة (71) من الدستور فقرة (م):«يقوم الاقتصاد الوطني على مبادئ العدالة الاجتماعية الإسلامية في العلاقات الاقتصادية الهادفة إلى تنمية الإنتاج وتطويره، وتحقيق التكافل والتوازن الاجتماعي وتكافؤ الفرص، ورفع مستوى معيشة المجتمع».

لذلك كله ونحن نحتفل بالعيد 46 لثورة سبتمبر والعيد 45 لثورة أكتوبر، وعيد الاستقلال 30 نوفمبر، فإن الواجب الديني والوطني يحتم على مناضلي الثورة اليمنية والعلماء وجميع الأحزاب سلطة ومعارضة ومنظمات المجتمع المدني وبقية الأطياف السياسية والاجتماعية العمل على تحويل الإسلام كعقيدة وشريعة إلى منهاج حياة، وتحويل الإسلام بمنظومة قيمه العدلية والحقوقية والشوروية والحريات العامة إلى واقع معاش، وتحقيق بقية الأهداف الثورية بمضامينها العادلة ومعطياتها الإنسانية والالتزام الصارم بالدستور والقوانين النافذة.. وخاصة الالتزام بالاقتصاد الإسلامي العادل وفق ماجاء في المادة (3) والمادة (7) من الدستور خاصة بعد أن أثبتت الأحداث أخيراً فشل النظام الاقتصادي الرأسمالي الربوي في عقر داره.

قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } ، وفي الوقت نفسه يجب العمل على ترسيخ الوحدة الوطنية وحمايتها من الفاسدين والعابثين بثروات البلاد ومقدرات الأمة، الذين تأخذهم العزة بالإثم ويستولون على الأراضي والممتلكات العامة والخاصة وأراضي المستثمرين بالتحايل وقوة السلاح، إنهم بهذه الأعمال المشينة يفسدون في الأرض بعد إصلاحها ويغتالون الوحدة بعد تحقيقها، حيث نتج عن ذلك ظهور الاحتقانات والتظلمات والاعتصامات في هذه المحافظة أو تلك، وظهور قلة مترفة من ذوي الجاه والقوة والثراء غير المشروع، فالأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً، كما أدى ذلك إلى تشكيل وعي مغاير للثورة والوحدة، وخلق وعي تشطيري في نفوس الغلابا والمظلومين تجعلهم مع الزمن يحنون ويترحمون على العهد الاستعماري والإمامي والتشطيري.

مذكرين أن من أهم مقتضيات الشريعة الإسلامية ومقاصدها العظيمة، وكذا أهداف الثورة اليمنية المجيدة تحقيق العدالة والأمن والاستقرار والنهوض الاقتصادي والحضاري والمعرفي.

ونعتقد أن البعد الإسلامي لثورة ووحدة شعبنا قد تمثل في تحقيق العدالة الاجتماعية، والتراحم والتكافل والتكامل والتعاون والتآزر والتوازن والتكافؤ بين جميع أفراد المجتمع.

ذلك أن العدالة والمواطنة المتساوية، وإشاعة الحريات العامة وكفالة حقوق الإنسان ، وتحقيق مبدأ الإطعام من جوع والأمن من خوف من أهم عوامل تمتين وترسيخ الوحدة الوطنية، كما أن ما يرسخ الوحدة أيضاً عدالة التوزيع للثروات والاستحقاقات وإزالة الفوارق والامتيازات بين طبقات المجتمع، كما جاء في أهداف وأدبيات الثورة اليمنية التي نحتفل هذه الأيام بأعيادها المجيدة، وعليه يجب العمل على تعزيز روح الأخوة والتصالح والتسامح والتوافق بين كل الأحزاب والفئات الاجتماعية وإيجاد الشراكة التكاملية بين كل الأطياف السياسية والاجتماعية من دون إقصاء وتهميش لهذه الجماعة أو تلك.

فاليمن يسع الجميع إذا اتسعت قلوب بعضنا لبعض، والوحدة تعتبر الحضن الدافئ لكل اليمنيين جنوباً وشمالاً من دون استثناء وبذلك يشعر الجميع أن الوحدة جاءت لحماية حقوقهم وأنهم مشاركون في مفاصل دول الوحدة ومساهمون في التحولات الاجتماعية والاستحقاقات الدستورية، وحتى أولئك الإخوة الذين تم استبعادهم بعد فتنة 94 المشؤومة عندما يتم ترتيب أوضاعهم حسب توجيهات فخامة الأخ الرئيس علي عبدالله صالح، ويمتد إليهم خير الوحدة وعدلها، ويتاح لهم المشاركة والمساهمة في مستقبل نظامنا الديمقراطي الوحدوي يجدون أنفسهم في الخط الأمامي للدفاع عن الوحدة. ذلك أن الجميع يدرك ويؤمن أن الوحدة هي قدر ومصير شعبنا اليمني، وهي مصدر قوته وعزته وأمنه وازدهاره، كما يدرك الجميع أن الاختلالات والمظالم والمفاسد التي توجد في هذه المحافظة أوتلك، لن يكون حلها بالدعوات الانفصالية المنتنة ولا بفدرلة اليمن وإنما يكون بالعمل الدؤوب والشجاع لإصلاح ما أفسده الدهر والمتنفذون والفاسدون، وإصلاح ذلك يكون في ظل إطار الوحدة.

لنجعل من هذه الأعياد الوطنية محطة للمراجعة والمحاسبة وفرصة للتصالح والتسامح والتوافق، وأن نترجم أهداف وأدبيات الثورة اليمنية الخالدة بمقتضياتها العادلة ومقاصدها الوحدوية والديمقراطية إلى واقع معاش.. لنجعل من هذه المناسبات الوطنية انطلاقة جادة لبناء النظام المؤسسي الشوروي، وقيام دولة القانون والنظام والإصلاح المالي والإداري والأمني والقضائي ووضع المعالجات الناجعة والسريعة للاختلالات والمظالم والأخطاء والتشوهات والمنغصات التي ارتكبناها سواء أكان ذلك في عهد التشطير أم في عهد الوحد المباركة والتي أدت إلى إعاقة النهوض الاقتصادي والاجتماعي والاستثماري والإضرار بالسلم الاجتماعي والسكينة العامة والوحدة الوطنية، كما يجب العمل سريعاً على تجفيف تلك المنابع التي تغذي روح التشدد والتنطع والغلو والتطرف والإرهاب، هذا الفكر المتطرف والدخيل على شعبنا والغريب على إسلامنا والذي يستهدف انتهاك ما حرم الله واستحلال دماء الآخرين والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل ونشر الخراب والرعب في مجتمعاتنا، وعليه فإن واجب العلماء بصفة خاصة التصدي لهذا الفكر التكفيري والعمل على ترشيد الخطاب الإسلامي، وبما يجسد ثقافة الوسطية والاعتدال، ثقافة المحبة والتراحم والوحدة والتكامل والوفاق والأخوة والسلام، واحترام الرأي والرأي الآخر، ونبذ ثقافة العنف والتطرف والإرهاب والثأر والتقطع وإخافة السبيل، وتجنب إثارة النعرات المناطقية والطائفية والسلالية والمذهبية والمكايدات والمحارشات الحزبية، ونشر الفتن والكراهية بين أبناء الوطن الواحد.

وينبغي أولاً وأخيراً إصلاح ما يمكن إصلاحه بإرادة جازمة، وعزيمة راسخة، ونيات صادقة وقبل ذلك كله المصالحة مع الله عزوجل، فالله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، قال سيدنا علي كرم الله وجهه:«الميدان الأول أنفسكم فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر»، وهكذا فالذين ينتصرون في أعماق أنفسهم ويحررونها من أدران العجب والشح والجشع والطمع والأثرة والأنانية والفساد ويغلبون المصلحة العليا للوطن على المصلحة الذاتية والحزبية والفئوية هم الذين ينتصرون على كابوس الفساد وعلى أعدائهم ويستحقون البقاء في هذه الحياة معززين مكرمين، وفي الصدارة والريادة لنضالات شعبنا اليمني العظيم: والعاقبة للمتقين..

تغمد الله شهداءنا بواسع رحمته وغفرانه وأسكنهم فسيح جناته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى